الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 316 ] 400 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في الصدقة : لا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب .

2507 - حدثنا يونس قال : حدثنا أنس بن عياض وحدثنا أبو أمية قال : حدثنا جعفر بن عون قال أنس : عن هشام بن عروة ، وقال جعفر : حدثنا هشام بن عروة ثم اجتمعا فقالا : عن أبيه ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال : حدثني رجلان من قومي أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الصدقة ، فسألا منها فرفع البصر وخفضه فرآهما جلدين قويين ، فقال : إن شئتما فعلت ، ولا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب .

[ ص: 317 ]

2508 - حدثنا يونس قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، والليث بن سعد ، عن هشام بن عروة .

وحدثنا بكار قال : حدثني الحجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة وهمام ، عن هشام فذكر بإسناده مثله .

قال أبو جعفر : فتأملنا هذا الحديث في إسناده فوجدنا فيه عن رجلين من قوم عبيد الله بن عدي لم يسمهما فيعلم بذلك أنهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيجب قبول ما رويا ، وقد يحتمل أن لا يكونا من أصحابه ، وكانا من الأعراب ممن اعترضه في الصدقة ولكنا تأملناه مع ذلك لنقف على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوابه الذي أجاب به ذينك [ ص: 318 ] الرجلين فوجدنا قوله : " لا حق فيها لغني " يعني الصدقة أي : أني لا علم لي بحقيقة أموركما من غنى أو فقر وأنتما بذلك أعلم مني فاعملا فيها ما يوجبه ما قد سمعتماه مني فيها أنه لا حق فيها لغني .

ثم تأملنا قوله : " ولا لقوي مكتسب " فوجدنا الصدقة قد تحل للفقير القوي ، وكان معنى قوله : " ولا حق فيها لقوي مكتسب " يريد صلى الله عليه وسلم الحق الذي هو أعلى مراتب الحقوق بالصدقة التي يستحق بها وليس هو القوة ولا الجلد الذي يستغنى به عنها كما تغلظ العرب الشيء من هذا الجنس ، فتقول : فلان عالم حقا إذا كان في أعلى مراتب العلم ، ولا تقوله لمن هو في دون أعلى مراتبه وإن كان عالما .

ومثل ذلك ما قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قاله في أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه .

2509 - كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة قال : جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ابعث لنا رجلا أمينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين حق أمين ، فاستشرف لها الناس فدعا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه .

[ ص: 319 ]

2510 - كما حدثنا فهد قال : حدثنا يحيى بن الحماني قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن صلة ، عن حذيفة قال : أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسقف نجران ، ثم ذكر مثله .

[ ص: 320 ]

2511 - وكما حدثنا يوسف بن يزيد قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن العاقب والسيد صاحبي نجران أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يلاعنهما ، فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح ولا عقبنا من بعدنا ، ولكن نعطيه ما سأل قالوا : نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لأبعثن معكما رجلا أمينا حق أمين حق أمين ، فاستشرف لها أصحابه فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قفى قال : هذا أمين هذه الأمة .

[ ص: 321 ] فكان قوله صلى الله عليه وسلم فيه : " حق أمين حق أمين " إثباته لأبي عبيدة أعلى مراتب الأمانة وإن كان قد يكون من أهلها من هو دونه فيها ، وليس من أعلى مراتبها ، فمثل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ولا حق فيها لقوي مكتسب هو على هذا المعنى ، وعلى أعلى مراتب الاستحقاق لها ، وإن كان في المستحقين لها من هو دون ذلك في استحقاقها ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية