الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 407 ] 413 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في استعانته بمن طلب الاستعانة به من الكفار ، وفي منعه من منعه من الكفار من القتال معه

2572 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن الفضيل بن أبي عبد الله ، عن عبد الله بن نيار الأسلمي ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر ، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه ، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئت لأتبعك وأصيب معك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتؤمن بالله عز وجل ورسوله ؟ قال : لا ، قال : فارجع فلن نستعين بمشرك قال : ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة فقال : لا ، فقال : ارجع فلن نستعين بمشرك قال : فرجع فأدركه بالبيداء فقال له : كما قال أول مرة : أتؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فانطلق .

[ ص: 408 ]

2573 - حدثنا يحيى بن عثمان قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا ابن المبارك قال : أخبرنا مالك بن أنس ، عن الفضيل بن أبي عبد الله ، عن عبد الله بن نيار ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبرة أدركه رجل ذو جرأة ونجدة ، فلما رآه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحوا به وأعجبهم فقال : يا محمد أخرج معك فأقاتل وأصيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتؤمن بالله عز وجل ورسوله ؟ قال : [ ص: 409 ] لا قال : فارجع فلن نستعين بمشرك فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بذي الحليفة أدركه فأعجب ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذا فلان قد رجع فقال : يا محمد أخرج معك فأقاتل وأصيب فقال : أتؤمن بالله عز وجل ورسوله ؟ قال : لا قال : فارجع فلن نستعين بمشرك فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بظهر البيداء لحقه أيضا ، فأعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا [ ص: 410 ] محمد أخرج معك فأقاتل وأصيب فقال : أتؤمن بالله عز وجل ورسوله ؟ قال : نعم قال : فنعم إذا .

2574 - وحدثنا أبو أمية قال : حدثنا بشر بن عمر الزهراني قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن فضيل بن أبي عبد الله ، عن عبد الله بن نيار ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد بدرا : أخرج معك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نستعين بمشرك . قال بشر : فقلت لمالك بن أنس : أليس ابن شهاب يحدث أن صفوان بن أمية سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد حنين والطائف وهو كافر ؟ قال : بلى ولكن سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك .

2575 - وحدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة [ ص: 411 ] الكوفي قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك ، عن الفضيل بن أبي عبد الله ، عن عبد الله بن نيار ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقاتل معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع فإنا لا نستعين بمشرك .

2576 - وحدثنا علي بن عبد الرحمن قال : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن الفضيل بن أبي عبد الله ، عن عبد الله بن نيار ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر مثل حديث يحيى بن عثمان ، عن نعيم ، عن ابن المبارك إلا أنه لم يذكر لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة .

قال أبو جعفر : وكان فيما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : إنا لا نستعين بمشرك ، وقد ذكرنا في حديث أبي أمية ، عن بشر بن عمر ، عن مالك ، عن ابن شهاب أن صفوان بن أمية شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا والطائف وهو كافر ، وطلبنا ذلك هل نجده في حديث مرفوع متصل الإسناد ؟

[ ص: 412 ]

فوجدنا فهدا قد حدثنا قال : حدثنا يوسف بن بهلول قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ابن إسحاق قال : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه جابر بن عبد الله قال : لما انهزم الناس يوم حنين جعل أبو سفيان بن حرب يقول : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر وصرخ كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه لأمه صفوان بن أمية : ألا بطل السحر اليوم فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن .

[ ص: 413 ]

ووجدنا الربيع المرادي قد حدثنا قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : حدثنا ابن إسحاق ثم ذكر مثله بإسناده .

فصار ما ذكره مالك عن ابن شهاب في أمر صفوان موجودا في حديث جابر الذي رويناه متصلا .

2577 - وحدثنا حسين بن نصر قال : سمعت يزيد بن هارون قال : أخبرنا مستلم بن سعيد قال : أخبرنا خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب ، عن أبيه ، عن جده قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا : إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لم نشهده معهم قال : وأسلمتما ؟ قلنا : لا قال : فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين .

[ ص: 414 ]

2578 - حدثنا علي بن شيبة قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، ثم ذكر بإسناده مثله .

فقال قائل : فهل يدفع ما رويته من أمر صفوان في قتاله مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك ما سواه مما رويته في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : إنا لا نستعين بمشرك .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل أن ما رويناه من قصة صفوان ليس بمخالف لما رويناه من سواها في هذا الباب من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أستعين بمشرك . لأن قتال صفوان كان معه صلى الله عليه وسلم لا باستعانة منه إياه في ذلك ، ففي هذا ما يدل على أنه إنما امتنع من الاستعانة به وبأمثاله ، ولم يمنعهم من القتال معه باختيارهم لذلك ، وكان تركه صلى الله عليه وسلم الاستعانة بهم محتملا أن يكون من قول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . فكانت الاستعانة بهم اتخاذه لهم بطانة ولم يكن قتالهم معه بغير استعانة منه بهم اتخاذا منه إياهم بطانة .

فقال قائل : فأنتم قد رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه اليهود إلى قتال أبي سفيان معه ، وهم ممن لا يألونه خبالا .

[ ص: 415 ]

2579 - وذكر في ذلك ما قد حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني عبد الرحمن بن شريح أنه سمع الحارث بن يزيد الحضرمي يحدث عن ثابت بن الحارث الأنصاري ، عن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أبي سفيان ليخرج إليه يوم أحد فانطلق إلى اليهود الذين كانوا في النضير ، فوجد منهم نفرا عند منزلهم فرحبوا فقال : إنا جئناكم لخير ، إنا أهل الكتاب ، وأنتم أهل الكتاب ، وإن لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر ، وإنه بلغنا أن أبا سفيان قد أقبل إلينا بجمع من الناس فإما قاتلتم معنا أو أعرتمونا سلاحا . قال : ففي هذا الحديث ما يخالف شيئا مما رويته في هذا الباب .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه أنه ليس في ذلك ما يخالف شيئا مما رويناه في هذا الباب لأن اليهود الذين دعاهم رسول [ ص: 416 ] الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى قتال أبي سفيان معه ليسوا من المشركين الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآثار الأول : إنه لا يستعين بهم أولئك عبدة الأوثان ، وهؤلاء أهل الكتاب الذين ذكرنا مباينة ما هم عليه ، وما عبدة الأوثان عليه في الباب الذي قبل هذا الباب ؛ لأن هؤلاء أهل الكتاب الذين نجتمع نحن وهم في الإيمان بما يؤمنون به من كتب الله عز وجل التي أنزلها على من أنزلها عليه من أنبيائه ونؤمن نحن وهم بالبعث من بعد الموت ، وأولئك الآخرون لا يؤمنون بشيء من ذلك فنحن وهؤلاء الكتابيون في قتال عبدة الأوثان يد واحدة ، والغلبة لنا لأنا الأعلون عليهم وهم تباع لنا في ذلك ، وهكذا حكمهم إلى الآن عند كثير من أهل العلم ، منهم أبو حنيفة وأصحابه يقولون : لا بأس بالاستعانة بأهل الكتاب في قتال من سواهم إذا كان حكمنا هو الغالب ، ويكرهون ما سوى ذلك إذا كانت أحكامنا بخلاف ذلك ، ونعوذ بالله من تلك الحال .

فقال هذا القائل : فأنتم قد رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا .

2580 - يعني ما حدثنا عبيد بن رجال قال : حدثنا هدية بن عبد [ ص: 417 ] الوهاب قال : حدثنا الفضل بن موسى السيناني قال : أنبأنا محمد بن عمرو ، عن سعد بن منذر الساعدي ، عن أبي حميد الساعدي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا هو بكتيبة خشناء فقال : من هؤلاء ؟ قالوا : بنو قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام وهم قوم عبد الله بن أبي ابن سلول فقال : أسلموا فأبوا قال : قل لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين .

قال أبو جعفر : ومعنى قولهم في هذا الحديث وهم قوم عبد الله بن أبي ابن سلول ليس يعنون بذلك أن عبد الله بن أبي منهم لأن عبد الله بن أبي ابن سلول ليس من اليهود ، ولكنه من الرهط الذين يرجع الأنصار إليهم بأنسابهم ، ولكنه جدل بنفاقه ، فأما نسبه فيهم فقائم وقيل : إنهم قومه أي لأنهم قومه بمحالفته لا بما سوى ذلك .

قال هذا القائل : فهذا يخالف ما في الآثار الأول في موضعين : أما أحدهما فإنه جعلهم مشركين بقوله لهم : إنا لا نستعين بالمشركين [ ص: 418 ] على المشركين ، وأما الآخر فمنعه إياهم من القتال معه ، وفي حديث ثابت بن الحارث الذي قد رويناه فيما تقدم منا في هذا الباب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود الذين كانوا في النضير إلى القتال معه .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن هذا الحديث غير مخالف لذلك الحديث ولا شيء مما رويناه في هذا الباب لأن وجه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء اليهود الذين من بني قينقاع ما قاله لهم في حديث أبي حميد كان بعد وقوفه صلى الله عليه وسلم على ما بينهم وبين عبد الله بن أبي المنافق من الحلف ، والمحالفة : هي الموافقة من الحالفين للحالفين ، فكانوا بذلك خارجين من الكتاب الذي كانوا من أهله مما سواهم من اليهود الذين كانوا في النضير في ذلك بحلافهم ؛ لأنهم لم يحالفوا منافقا .

وكان أولئك بما حالفوا المنافق الذي حالفوه مرتدين عما كانوا فيه إلى ما هو عليه ، فكانوا بذلك كالمرتدين من أهل ملتنا إلى يهودية أو إلى نصرانية ، فلا يكونون بذلك يهودا ولا نصارى ، لأن ذبائحهم غير مأكولات ، ولأن نساءهم اللاتي دخلن معهم في ذلك غير منكوحات ، فمثل ذلك بنو قينقاع لما حالفوا عبد الله بن أبي المنافق فواطؤوه على ما هو عليه من النفاق ، ووافقوه على ذلك خرجوا بذلك من حكم الكتاب الذي كانوا من أهله ، وصاروا مشركين كمشركي العرب الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يستعين بهم فلم يستعن بهم في قتاله المشركين لذلك ، فأما من سواهم ممن تمسك بكتابه الذي جاء به الذي يذكر أنه على دينه فمخالف لذلك ، ولا بأس بالاستعانة بمثله في قتال المشركين ؛ لأنه ليس بمشرك إنما هو كتابي كافر وهو [ ص: 419 ] عدو للكفار من عبدة الأوثان ، كما نحن أعداء لهم والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية