الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 185 ] 677 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تخييره بريرة بين فراق زوجها وبين المقام معه : هل كان ذلك للعتاق الذي وقع عليها على كل أحوال زوجها من حرية أم من عبودية خاصة دون الحرية

حدثنا علي بن شيبة ، أنبأنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها أن زوج بريرة كان حرا .

[ ص: 186 ]

4373 - حدثنا أبو أمية ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان زوج بريرة حرا ، وأنها خيرت فاختارت نفسها .

[ ص: 187 ]

4374 - وحدثنا عبد الملك بن مروان الرقي قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : كان زوج بريرة حرا ، فلما عتقت ، خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختارت نفسها .

حدثنا أبو أمية ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتي ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها أن زوج بريرة كان حرا مولى لآل أبي أحمد .

[ ص: 188 ] قال أبو جعفر : وفي هذه الآثار ، عن عائشة رضي الله عنها أن زوج بريرة كان حرا يوم خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنه كان عبدا .

كما حدثنا أبو أمية ، حدثنا معلى بن منصور ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثني هشام بن عروة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة أعتقت حين أعتقتها عائشة ، وإن زوجها كان عبدا . [ ص: 189 ]

وكما حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا إسماعيل بن سالم ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ( ح ) ، وكما حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان زوج بريرة عبدا .

وكما حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها أن زوج بريرة كان عبدا .

[ ص: 190 ] فأدخل الدراوردي بين هشام بن عروة وبين الذي بعده في إسناد هذا الحديث عبد الرحمن بن القاسم ، فعاد إلى القاسم عن عائشة ، ووافق الدراوردي حاتم بن إسماعيل في ذلك وخالفه جرير فيه .

ففي هذه الآثار خلاف ما في الآثار الأول في زوج بريرة .

فقال بعض الناس : فقد روي عن عائشة في غير هذه الآثار ما يدل على صحة ما في هذه الآثار ، فذكر في ذلك .

4375 - ما قد حدثنا يزيد بن سنان ، وثبتني فيه القاسم بن جعفر عنه ، قال : حدثنا أبو علي الحنفي ، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عائشة رضي الله عنها أنه كان لها غلام وجارية زوج ، فقالت : يا رسول الله ، إني أريد أن أعتقهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فابدئي بالرجل قبل المرأة .

[ ص: 191 ] قال : ففي ذلك ما قد دل على أن زوج بريرة كان عبدا ، وعلى أن الأمة لا خيار لها إذا أعتقت وكان زوجها حرا .

فكان جوابنا له في ذلك أن هذا معقول فيه أن الذكر من هذين المملوكين هو غير زوج بريرة ، وأن الأنثى التي فيه كانت غير بريرة ، لأن عائشة إنما اشترتها فأعتقتها ، ولم تكن في ملكها قبل ذلك . وتأملنا هذا الحديث ، فوجدناه مما يبعد قبوله من القلوب ، لأنه محال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر فيه حياطة لواحد من اثنين وغير حياطة الآخر منهما ، وأن يأمر بعتاق يبطل حق الزوجة التي من شريعته وجوب ذلك الحق لها إذا أعتقت ، ويحوط الزوج بأن لا يجب عليها ذلك الاختيار لزوجته ، ولكنه عندنا - والله أعلم - أراده منه من عائشة رضي الله عنها أن يكون منها في مملوكيها صرفهما إلى صلة رحمها بهما ، وأن ذلك أولى بها من العتاق لهما ، كما قد روي عنه مما قد كان قاله لزوجته ميمونة لما أعتقت جارية لها .

4376 - كما حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، حدثنا أسد ، حدثنا ابن لهيعة حدثنا بكير بن الأشج ، عن كريب مولى ابن عباس قال : سمعت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : أعتقت وليدة لي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لو أعطيتيها أخوالك كان أعظم لأجرك .

[ ص: 192 ]

4377 - وكما حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد ، حدثنا محمد بن خازم ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ميمونة مثله .

[ ص: 193 ] واحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرت عائشة من النية في العتاق ما حضرها ، أمرها أن تعتق من مملوكيها أعظمهما ثوابا في العتق ، لأن عتاق الذكر أفضل من عتاق الإناث على ما في حديث مرة بن كعب الذي قد ذكرناه فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، وأرجأ أمر الجارية لترتئي فيها بين حبسها وبين الصلة بها من عساه أن يصله بها من ذوي أرحامها .

ثم نظرنا ، هل روي في زوج بريرة عن غير عائشة شيء أم لا ؟

4378 - فوجدنا علي بن عبد الرحمن قد حدثنا قال : حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا ، فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع قضايا : أن مواليها اشترطوا الولاء ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء لمن أعطى الثمن ، وخيرها ، وأمرها أن تعتد ، وتصدق عليها بصدقة فأهدت منها إلى عائشة ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : هو لنا هدية ، ولها صدقة .

[ ص: 194 ]

4379 - ووجدنا صالح بن عبد الرحمن قد حدثنا قال : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما خيرت بريرة رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته ، فكلم له العباس النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب إليها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : زوجك وأبو ولدك ! " فقالت : أتأمرني به يا رسول الله ؟ فقال : " إنما أنا شافع ، فقالت : إن كنت شافعا فلا حاجة لي فيه ، واختارت نفسها ، وكان يقال له : مغيث ، وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم .

[ ص: 195 ] قال أبو جعفر : ففي هذا عن ابن عباس بلا اختلاف عنه أنه كان عبدا ، ولما وقع هذا الاختلاف في هذا المعنى وجب تصحيح ما روي فيه ، إذ كنا نجد السبيل إلى ذلك ، فوجب أن يكون قد كان عبدا في حال وكان حرا في حال آخر ، فكانت حال العبودية قد تكون بعدها الحرية ، وحال الحرية لا يكون بعدها العبودية ، فجعلناه قد كان عبدا في البدء ثم صار حرا بعد ذلك في الحال التي خيرت زوجته بين المقام عنده وبين فراقه ، ثم رجعنا إلى ما يوجبه النظر في ذلك فوجدنا الأمة لمولاها أن يزوجها في حال ملكه لها ممن رأى من الأحرار ومن المماليك ، ووجدناه إذا أعتقها ولها زوج مملوك قد كان زوجها إياه أن لها الخيار في فراقه وفي المقام عنده ، واختلفوا إذا كان حرا ; فقال بعضهم : هو كذلك أيضا ، وممن قال ذلك منهم : أبو حنيفة ، والثوري ، وأصحابهما جميعا ، وقال بعضهم : لا خيار لها في فراقه ، وممن قال ذلك منهم : مالك ، وعامة أهل الحجاز .

واعتل لهم معتل ، فقال : إنما جعل لها الخيار إذا كان زوجها عبدا ، لأنه لا يستطيع تزويج بناتها ولا تحصينها كما يحصنها الحر ، فجعل لها الخيار لذلك بين فراقه وبين المقام معه ، فكان لمخالفيهم عليهم في ذلك من رد الأمر الذي له خيرت في ذلك أنه إنما هو [ ص: 196 ] لملكها نفسها ، فجعل لها إمضاء ما قد عقده مولاها عليها ورفعه عن نفسها ، وخولف في ذلك بينها وبين الصبية إذا زوجها أبوها قبل بلوغها ثم بلغت ، فلم يجعل لها خيار في فراق من كان أبوها زوجها إياه ، حرا كان أو عبدا .

ولما استوى الحكم فيمن كان أبوها زوجها إياه ، حرا كان أو عبدا ، في حال ولايته عليها من الأحرار ومن المماليك في أن لا خيار لها في فراقه ، كان كذلك الأمة إذا أعتقت ، فرجع أمرها إليها يستوي حكمها فيما كان مولاها عقده عليها في حال ملكه لها من الأحرار ومن المماليك ، فكما كان لها الخيار في المماليك منهم فكذلك يكون لها الخيار في الأحرار منهم .

قال : فقال قائل : ففي حديث هشام بن عروة .

4380 - فذكر ما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا إسماعيل بن سالم ، حدثنا جرير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان زوج بريرة عبدا ، ولو كان حرا لم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فكان جوابنا له في ذلك أنا لا ندري من صاحب هذا الكلام من رواة هذا الحديث ، هل هو عن عائشة ؟ أو من دونها منهم ؟ ولما [ ص: 197 ] لم نعلم أنه من عائشة فنجعله قول صحابي لا مخالف له فيه ، واحتمل أن يكون من قول تابعي وهو رأيه عنها ، أو من قول من هو دونه من رواة هذا الحديث .

ثم نظرنا ، هل روي عن أحد من التابعين شيء يوجب الخيار لهذه المعتقة أم لا . ؟

فوجدنا يونس قد حدثنا قال : حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : للأمة الخيار إذا أعتقت ، وإن كان زوجها رجلا من قريش .

فإن كان عروة هو الذي قال ما في الحديث الذي رويناه قوبل قوله في ذلك بقول طاوس الذي يخالفه . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية