الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 457 ] 713 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراد بقول الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) الآية ، وفي حكمها ، هل هو باق ؟ أو لحقه نسخ ؟

4546 - حدثنا علي بن معبد ، حدثنا صالح بن عبد الله الترمذي ، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة للتجارة ، فخرج رجل من بني سهم ، فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما بتركته ، فدفعا بتركته إلى أهله ، وحبسا جاما من فضة مخوصا من ذهب ، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله : ما كتمنا ولا أطلعنا ، ثم عرف الجام بمكة عند قوم من أهل مكة ، فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فقام رجلان من أولياء السهمي ، فحلفا بالله : إن هذا لجام السهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذا لمن الظالمين ، فأخذ الجام ، وفيهم نزلت هذه الآية .

[ ص: 458 ] [ ص: 459 ] قال أبو جعفر : ومحمد بن أبي القاسم هذا كوفي ثقة يعرف بالشني ، وقد روى عنه غير ابن أبي زائدة ، منهم أبو أسامة .

4547 - وحدثنا الحسين بن الحكم الحبري ، حدثنا الحسن بن الحسين العرني ، حدثنا يحيى بن المهلب أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله .

[ ص: 460 ] فقال قائل : فهذه آية قد أنزلها الله في كتابه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه بما أنزله عليه فيها ما قد رويته في هذا الباب ، وقد روي عن ابن عباس وهو الذي روى هذا الحديث في تمسكه بها ، وأنها عنده مما الحكم بما فيها قائم لم يلحقه نسخ

وذكر

ما قد حدثنا محمد بن عبد الرحيم الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا المغيرة بن سلمة المخزومي ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : قال ابن عباس في قوله عز وجل : أو آخران من غيركم ، قال : من غير أهل الإسلام من الكفار إذا لم تجدوا المسلمين .

وكما حدثنا أحمد بن داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الواحد يعني ابن زياد قال : حدثنا حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أو آخران من غيركم قال : من غير المسلمين [ ص: 461 ] من أهل الكتاب .

قال أبو جعفر : فهذا يدل على أنها كانت عند ابن عباس محكمة غير منسوخة .

وروي عن أبي موسى الأشعري فيها ما يدل على أن مذهبه كان فيها كمذهب ابن عباس .

كما حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، حدثنا شعبة ، أخبرنا المغيرة الأزرق قال : سمعت الشعبي يقول : قضى أبو موسى الأشعري بدقوقاء بهذه الآية أو آخران من غيركم .

[ ص: 462 ]

وكما حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عيسى بن يونس ، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة ، عن عامر قال : خرج رجل من بني خثعم ، فتوفي بدقوقاء ، فلم يشهد وصيته إلا رجلان نصرانيان من أهله ، فأشهدهما على وصيته ، فقدما الكوفة فأحلفهما أبو موسى الأشعري دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة بالله الذي لا إله إلا هو ما خانا ولا بدلا ولا كتما ، وإنها لوصيته ، ثم أجاز شهادتهما .

قال أبو جعفر : فدل ذلك على أنها كانت عنده محكمة غير منسوخة ، ولا نعلم عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خلافا لهما - يعني ابن عباس وأبا موسى - في ذلك ، والله أعلم ، ثم التابعون في ذلك قد كان أكثرهم على مثل الذي كانا عليه في ذلك .

[ ص: 463 ] فذكر ما .

حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : كتب هشام بن هبيرة إلى شريح يسأله عن شهادة المشركين على المسلمين ؟ فكتب إليه أن لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية ، ولا تجوز في وصية إلا أن يكون مسافرا .

وما قد حدثنا الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي ولا النصراني إلا في السفر ، ولا تجوز في السفر إلا [ ص: 464 ] في الوصية .

قال : فهذا شريح وهو قاضي الخلفاء الراشدين المهديين قد كان مذهبه فيها أيضا أنها محكمة غير منسوخة .

وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أو آخران من غيركم ، قال : من أهل الكتاب .

فدل ذلك على ما دل عليه ما قبله .

وما قد حدثنا الهروي حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله عز وجل : تحبسونهما من بعد الصلاة ، قال : هي صلاة العصر ، قال : [ ص: 465 ] وقال معمر : قال قتادة مثله .

وما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا إبراهيم بن الحجاج ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد قال : سألت عبيدة عنها ، فقال : من غير أهل الملة .

فدل ذلك أيضا على مثل ما قد دل عليه ما قبله .

وما قد حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أن يموت المسلم ، فيحضر موته مسلمان أو كافران ، ولا [ ص: 466 ] يحضر غير اثنين منهم ، فإن رضي ورثته بما غلبا عنه من تركته فذلك ، ويحلفان : إنهما صادقان ، فإن عثر بلطخ وجد ، أو لبس ، أو تشبيه ، حلف الاثنان للأقربين من الورثة ، فاستحقا ، وأبطلا أيمان الشاهدين .

فدل ذلك أنها كانت عند مجاهد كما ذكرناها على ما كانت عليه عند غيره .

وما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال المغيرة : وأخبرني من سمع سعيد بن جبير : أو آخران من غيركم ، قالا : من غير دينكم .

[ ص: 467 ]

وما قد حدثنا محمد ، حدثنا حجاج ، حدثنا أبو هلال الراسبي ، عن محمد بن سيرين مثله .

فدل ذلك أنها كانت عند إبراهيم ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين كذلك أيضا .

فكان جوابنا له في ذلك أن الذي ذكره كما ذكره ، وأن القول فيه هو القول في هذه الآثار ، وقد قال به من فقهاء الأمصار ابن أبي ليلى .

كما حدثنا جعفر بن أحمد بن الوليد ، حدثنا بشر بن الوليد قال سمعت أبا يوسف يقول : وكان ابن أبي ليلى يقول في ذلك ، فذكر مثل القول الذي ذكرناه عن من تقدم في هذا الباب .

وقال به الأوزاعي

كما أجازه لنا محمد بن سنان ، عن محمود بن خالد ، عن عمر بن عبد الواحد قال : سمعت الأوزاعي يقول في رجل مسلم مات في [ ص: 468 ] قرية ليس فيها مسلمون ، فأوصى ، قال : يغسلونه ويدفنونه ، وتجوز شهادتهم ، يعني على وصيته .

وقال به الثوري أيضا .

كما حدثنا القاسم بن عبد الرحمن الجزري ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الدعلجي ، عن محمد بن علي بن أبي خداش ، عن المعافى بن عمران قال : وسئل - يعني الثوري - عن شهادة أهل الذمة في السفر ، هل يعمل بذلك اليوم ؟ فذكر عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي ولا النصراني إلا في وصية ، ولا تجوز في وصية إلا في السفر ، قال سفيان : حيث لا يوجد مسلم ، قيل لسفيان : أيؤخذ بها ؟ أو نحو ذلك ، فقال : قد عمل بها أبو موسى .

فإن قال قائل : قد روي عن الحسن ما يخالف أقوال هؤلاء الذين ذكرت .

[ ص: 469 ]

فذكر ما قد حدثنا الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا روح ، أخبرنا عوف ، عن الحسن في قوله : اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ، قال : من غير أهل قبيلتكم ، كلهم من أهل الصلاة ، ألا تراه يقول : تحبسونهما من بعد الصلاة ؟

فكان جوابنا له في ذلك أنا لا ندفع أن يكون أهل العلم قد اختلفوا في ذلك ، وكيف ندفع أن يكونوا اختلفوا فيه ، وأبو حنيفة في أصحابه ، ومالك في أصحابه ، والشافعي في أصحابه يذهبون إلى أنها بخلاف ما هي عليه ممن قد ذكرنا ؟ فمنهم من يذهب إلى أنها منسوخة بقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم ، وهذا مما لا يقطع فيه على المخالف بقيام الحجة عليه بالنسخ لما قد أنزله الله في كتابه ، وعمل به رسوله ، وعمل به من عمل به من أصحابه ، ولا يجوز أن ينسخ ما قد أجمع على ثبوته إلا لقيام الحجة بما يوجب ذلك فيه .

فأما ما قد ذكرناه مما يستدل به الحسن من قول الله : تحبسونهما من بعد الصلاة ما قد دل على أنهما من أهل الصلاة ، فإن ذلك مما لا دليل عندنا فيه ، وإنما ذلك عند كثير من أهل العلم على أنه [ ص: 470 ] قصد بذلك إلى الوقت الذي يعظمه أهل الأديان جميعا وهو ما بعد صلاة العصر ويتوقونه ويخافون نزول العقوبة بهم عند المعصية فيه ، وقد ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ; رجل حلف بعد العصر على سلعة أنه أعطي بها كذا وكذا كاذبا " ، وقد ذكرنا ذلك بإسناده فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، فإذا كان هذا الاختلاف في هذا كما قد ذكرنا ، بقي حكم الآية على ما كان عليه حتى يكون مثله مما يوجب نسخها ، وقد كان الزهري وزيد بن أسلم يذهبان إلى أنها مما قد نسخ العمل به .

كما قد حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، ثم ذكر في اختلاف من ذكره من فقهاء أهل المدينة في ذلك ما قد ذكره فيه ، وقال بعقب ذلك : ولا تجوز شهادة كافر على أحد من المسلمين في شيء من الأموال في حضر ولا سفر .

وكما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن [ ص: 471 ] عياش ، عن زيد بن أسلم في هذه الآية : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت الآية ، قال : ذلك كان في رجل توفي ، وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب ، والناس كفار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض ، وعمل بها المسلمون .

قال أبو جعفر : وليس في هذا إلى الآن ما يوجب نسخ هذه الآية ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية