الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الأصبهاني قال: حدثني الحسن بن الجهم التميمي وعبد الله بن بندار قالا: حدثنا موسى بن المساور الضبي الثقة المأمون، قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني , عن معمر بن راشد , عن الزهري قال: " أول ما ذكر من عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا خرجت من الحرم فارة من أصحاب الفيل وأجلت عنه قريش - وهو غلام شاب - فقال: والله لا أخرج من حرم الله أبتغي العز في غيره؟ فجلس عند البيت وقال:


                                        لاهم إن المرء يمـ ـنع رحله فامنع حلالك

                                        وذكر مع ذلك غيره.

                                        قال: فلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله تعالى الفيل وأصحابه , فرجعت قريش وقد عظم فيهم لصبره وتعظيمه محارم الله تعالى , فبينا هو على ذلك وعنده أكبر بنيه قد أدرك , وهو الحارث بن عبد المطلب فأتي عبد المطلب في المنام , فقيل له: احفر زمزم، خبية الشيخ الأعظم.

                                        فاستيقظ , فقال: اللهم بين لي فأري في المنام مرة أخرى: احفر تكتم بين الفرث [ ص: 86 ] والدم، في مبحث الغراب في قرية النمل , مستقبلة الأنصاب الحمر.

                                        فقام عبد المطلب يمشي حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الآيات فنحرت بقرة بالحزورة، فانفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلبها الموت في المسجد في موضع زمزم، فنحرت تلك البقرة في مكانها حتى احتمل لحمها، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث فبحث عن قرية النمل.

                                        فقام عبد المطلب فحفر هنالك، فجاءته قريش فقالت لعبد المطلب: ما هذا الصنيع؟ إنا لم نكن نزنك بالجهل؛ لم تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب: إني لحافر هذه البئر، ومجاهد من صدني عنها.

                                        فطفق يحفر هو وابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره، فتسفه عليهما ناس من قريش فنازعوهما وقاتلوهما، وتناهى عنه أناس من قريش لما يعلمون من عتق نسبه وصدقه واجتهاده في دينهم يومئذ , حتى إذا أمكن الحفر واشتد عليه الأذى؛ نذر إن وفي له عشرة من الولد أن ينحر أحدهم.

                                        ثم حفر حتى أدرك سيوفا دفنت في زمزم حيث دفنت , فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالوا: يا عبد المطلب أحذنا مما وجدت.

                                        فقال عبد [ ص: 87 ] المطلب: إنما هذه السيوف لبيت الله.

                                        فحفر حتى أنبط الماء , فخرقها في القرار، ثم بحرها حتى لا تنزف، ثم بنى عليها حوضا , فطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض , فيشرب منه الحاج، فيكسره أناس حسدة من قريش بالليل، فيصلحه عبد المطلب حين يصبح , فلما أكثروا إفساده، دعا عبد المطلب ربه , فأري في المنام فقيل له , قل: اللهم إني لا أحلها لمغتسل , ولكن هي لشارب حل وبل.

                                        ثم كفيتهم , فقام عبد المطلب حين اختلفت قريش في المسجد , فنادى بالذي أري , ثم انصرف , فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد من قريش إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه وسقايته.

                                        ثم تزوج عبد المطلب النساء , فولد له عشرة رهط فقال: اللهم إني كنت نذرت لك نحر أحدهم , وإني أقرع بينهم , فأصب بذلك من شئت , فأقرع بينهم , فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب وكان أحب ولده إليه.

                                        فقال عبد المطلب: اللهم أهو أحب إليك أم مائة من الإبل؟ ثم أقرع بينه وبين المائة , فكانت القرعة على مائة من الإبل , فنحرها عبد المطلب مكان عبد الله.

                                        وكان عبد الله أحسن من رئي في قريش قط.

                                        فخرج يوما على نساء من قريش مجتمعات , فقالت امرأة منهن: يا نساء قريش أيتكن تتزوج هذا الفتى فتصطاد النور الذي بين عينيه؟ وإن بين عينيه نورا قال: فتزوجته آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة , فجامعها , فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                        [ ص: 88 ] ثم بعث عبد المطلب عبد الله بن عبد المطلب يمتار له تمرا من يثرب فتوفي بها عبد الله بن عبد المطلب، فولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكان في حجر جده عبد المطلب فاسترضعته امرأة من بني سعد بن بكر , فنزلت به أمه التي ترضعه سوق عكاظ فرآه كاهن من الكهان , فقال: يا أهل عكاظ اقتلوا هذا الغلام، فإن له ملكا فزاغت به أمه التي ترضعه , فأنجاه الله تعالى.

                                        ثم شب عندها , حتى إذا سعى وأخته من الرضاعة تحضنه، جاءت أخته من أمه التي ترضعه فقالت: أي أمتاه إني رأيت رهطا أخذوا أخي القرشي آنفا , فشقوا بطنه فقامت أمه التي ترضعه فزعة حتى تأتيه فإذا هو جالس منتقع لونه , لا ترى عنده أحدا , فارتحلت به حتى أقدمته على أمه.

                                        فقالت لها: اقبضي عني ابنك , فإني قد خشيت عليه.

                                        فقالت أمه: لا والله ما بابني مما تخافين , لقد رأيت وهو في بطني أنه خرج معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء.

                                        فافتصلته أمه وجده عبد المطلب , ثم توفيت أمه فيتم في حجر عبد المطلب فكان وهو غلام يأتي وسادة جده فيجلس عليها، فيخرج جده وقد كبر , فتقول الجارية التي تقود جده: انزل عن وسادة جدك.

                                        فيقول عبد المطلب: دعوا ابني فإنه يحس بخير .

                                        [ ص: 89 ] قال: فتوفي جده , ورسول الله صلى الله عليه وسلم غلام , فكفله أبو طالب وهو أخو عبد الله لأبيه وأمه , فلما ناهز الحلم ارتحل به أبو طالب تاجرا قبل الشام، فلما نزل تيماء رآه حبر من يهود تيماء فقال لأبي طالب: ما هذا الغلام منك قال: هو ابن أخي , قال: أشفيق أنت عليه؟ قال: نعم , قال: فوالله لئن قدمت به الشام لا تصل به إلى أهلك أبدا لتقتلنه اليهود إن هذا عدوهم فرجع به أبو طالب من تيماء إلى مكة.

                                        فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة من قريش الكعبة , فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت , فوهى البيت للحريق الذي أصابه , فتشاورت قريش في هدم الكعبة , وهابوا هدمها , فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم تريدون الإساءة؟ فقالوا: بل نريد الإصلاح.

                                        قال: فإن الله تعالى لا يهلك المصلح , وقالت: فمن ذا الذي يعلوها فيهدمها؟ فقال الوليد بن المغيرة: أنا أعلوها فأهدمها , فارتقى الوليد على ظهر البيت ومعه الفأس , فقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح ثم هدم , فلما رأته قريش قد هدم منها ولم يأتهم ما يخافون من العذاب هدموها معه , حتى إذا ابتنوا فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن , أي القبائل تلي رفعه؟ حتى كاد يشجر بينهم، فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة , فاصطلحوا على ذلك , فطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة , فحكموه , فأمر بالركن فوضع في ثوب , ثم [ ص: 90 ] أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية الثوب , ثم ارتقى هو , وأمرهم أن يرفعوه إليه , فرفعوا إليه الركن فكان هو يضعه.

                                        ثم طفق لا يزداد فيهم على السن إلا رضا حتى سموه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي.

                                        قال: وطفقوا لا ينحرون جزورا للبيع إلا دعوه ليدعو لهم فيها.

                                        فلما استوى وبلغ أشده وليس له كثير مال استأجرته خديجة بنت خويلد إلى سوق حباشة وهو سوق بتهامة واستأجرت معه رجلا من قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عنها: "ما رأيت من صاحبة أجيد خيرا من خديجة، ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبؤه لنا" .

                                        قال: فلما رجعنا من سوق حباشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قلت لصاحبي: انطلق بنا نتحدث معا عند خديجة فجئناها، فبينما نحن عندها إذ دخلت علينا منشية من مولدات قريش - وفي رواية مستنشية وهي الكاهنة من مولدات قريش - فقالت: أمحمد هذا؟ والذي يحلف به إن جاء لخاطبا قال: قلت: كلا , قال: فلما خرجت أنا وصاحبي قال لي: أمن خطبة خديجة تستحي؟ فوالله ما من قرشية إلا تراك لها كفؤا، قال: فرجعت أنا وصاحبي مرة أخرى، قال: فدخلت علينا تلك المنشية، فقالت [ ص: 91 ] : أمحمد هذا؟ والذي يحلف به إن جاء لخاطبا فقلت على حياء: "أجل" قال: فلم تعصني خديجة ولا أختها , فانطلقت إلى أبيها خويلد بن أسد وهو ثمل من الشراب , فقالت له: هذا ابن أخيك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يخطب خديجة , وقد رضيت خديجة , فدعاه فسأله عن ذلك , فخطب إليه , فأنكحه , قال: فخلقت خديجة أباها , وحلت عليه حلة , فدخل عليه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صحا الشيخ من سكره قال: ما هذا الخلوق؟ وما هذه الحلة؟ قالت أخت خديجة: هذه حلة كساكها ابن أخيك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أنكحته خديجة وقد بنى بها , فأنكر الشيخ ثم صار إلى أن سلم ذلك واستحيا , قال: فطفقت رجاز من رجاز قريش تقول:


                                        لا تزهدي خديج في محمد     جلد يضيء كإضاء الفرقد

                                        فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خديجة حتى ولدت له بعض بناته , وكان له ولها القاسم وقد زعم بعض العلماء أنها ولدت له غلاما يسمى الطاهر وقال بعضهم: ما نعلمها ولدت غلاما إلا القاسم وولدت بناته الأربع زينب وفاطمة ورقية وأم كلثوم [ ص: 92 ] وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما ولدت بعض بناته يحبب إليه الخلاء.

                                        قلت: هذا الحديث عن الزهري رحمنا الله وإياه يجمع بيان أحوال من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم , إلا أنه على ما كان عنده من تقدم عام الفيل على ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد روينا عن غيره أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت عام الفيل , فسبيلنا أن نبدأ في شواهد ما روينا عن الزهري بحديث زمزم.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية