الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير قال: قال محمد بن إسحاق:

                                        [ ص: 27 ] وكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، كان إليه ومعه , ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجرا، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير ضب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بزمام ناقته، وقال: يا عم، إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم لي، فرق له أبو طالب، وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا، أو كما قال، قال: فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له: بحيراء في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب يصير علمهم عن كتاب فيه، فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيراء، وكانوا كثيرا مما يمرون به قبل ذلك لا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى إذا كان ذلك العام، نزلوا به قريبا من صومعته، فصنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون، عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا وغمامة بيضاء تظله من بين القوم , ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وشمرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها , فلما رأى ذلك بحيراء نزل من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وحركم وعبدكم فقال له رجل منهم: يا بحيراء، إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا فيما مضى، وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيراء: [ ص: 28 ] صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة.

                                        فلما نظر بحيراء في القوم ولم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معاشر قريش، لا يتخلف أحد منكم عن طعامي هذا , فقالوا له: يا بحيرى ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا، تخلف في رحالهم قال: فلا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن هذا للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا قال: ثم قام إليه فاحتضنه، ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم فلما رآه بحيراء جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، قام بحيراء فقال له: يا غلام، أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه , وإنما قال له بحيراء ذلك؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسلني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط.

                                        فقال له بحيراء: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه , فقال: سلني عما بدا لك , فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيراء من صفته , ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده قال: فلما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: هل هذا الغلام منك؟ فقال: ابني , فقال له بحيراء: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا.

                                        قال: فإنه ابن أخي.

                                        قال: فما [ ص: 29 ] فعل أبوه؟ قال: مات، وأمه حبلى به.

                                        قال: صدقت.

                                        قال: ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن، فأسرع به إلى بلاده فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيرا وثماما ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب، قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء، فأرادوه فردهم عنه بحيراء، وذكرهم الله، وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا بما أرادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا فقال أبو طالب في ذلك شعرا يذكر مسيره برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أراد منه أولئك النفر، وما قال لهم فيه بحيراء، وذكر ابن إسحاق ثلاث قصائد من شعره في ذلك.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية