الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 93 ] باب ما جاء في حفر زمزم على طريق الاختصار

                                        أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله بن زرير الغافقي، قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول وهو يحدث حديث زمزم، قال: بينا عبد المطلب نائم في الحجر أتي , فقيل له: احفر برة، فقال: وما برة؟ ثم ذهب عنه , حتى إذا كان الغد نام في مضجعه ذلك , فأتي فقيل له: احفر المضنونة، قال: وما مضنونة؟ ثم ذهب عنه , حتى إذا كان الغد عاد فنام في مضجعه ذلك , فأتي فقيل له: احفر طيبة، فقال: وما طيبة؟ ثم ذهب عنه , فلما كان الغد عاد فنام بمضجعه، فأتي فقيل [ ص: 94 ] له: احفر زمزم فقال: وما زمزم؟ فقال: لا تنزف ولا تذم , ثم نعت له موضعها , فقام يحفر حيث نعت له , فقالت له قريش: ما هذا يا عبد المطلب؟ فقال: أمرت بحفر زمزم، فلما كشف عنه وبصروا بالظبي قالوا: يا عبد المطلب: إن لنا حقا فيها معك، إنها لبئر أبينا إسماعيل، فقال: ما هي لكم , لقد خصصت بها دونكم , قالوا: فحاكمنا، قال: نعم , قالوا: بيننا وبينك كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بأشراف الشام.

                                        قال: فركب عبد المطلب في نفر من بني أبيه , وركب من كل بطن من أفناء قريش نفر , وكانت الأرض إذ ذاك مفاوز فيما بين الشام والحجاز، حتى إذا كانوا بمفازة من تلك البلاد فني ماء عبد المطلب وأصحابه حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا القوم , قالوا: ما نستطيع أن نسقيكم , وإنا لنخاف مثل الذي أصابكم , فقال عبد المطلب لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فقال: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرة بما بقي من قوته , فكلما مات رجل منكم دفعه أصحابه في حفرته حتى يكون آخركم يدفعه صاحبه , فضيعة رجل أهون من ضيعة جميعكم ففعلوا , ثم قال: والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت , لا نضرب في الأرض ونبتغي لعل الله عز وجل أن يسقينا عجز.

                                        فقال لأصحابه: ارتحلوا , قال: فارتحلوا وارتحل , فلما جلس [ ص: 95 ] على ناقته فانبعثت به انفجرت عين من تحت خفها بماء عذب , فأناخ وأناخ أصحابه , فشربوا وسقوا واستقوا , ثم دعوا أصحابهم: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله تعالى فجاؤوا واستقوا وسقوا، ثم قالوا: يا عبد المطلب قد والله قضي لك , إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، انطلق فهي لك , فما نحن بمخاصميك قال ابن إسحاق : فانصرفوا ومضى عبد المطلب فحفر , فلما تمادى به الحفر وجد غزالين من ذهب , وهما الغزالان اللذان كانت جرهم دفنت فيها حين أخرجت من مكة وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الذي سقاه الله عز وجل حين ظمئ وهو صغير [ ص: 96 ] .

                                        قال ابن إسحاق : ووجد عبد المطلب أسيافا مع الغزالين، فقالت قريش: لنا معك في هذا يا عبد المطلب شرك وحق، فقال: لا , ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح، فقالوا: فكيف نصنع؟ قال: اجعلوا للكعبة قدحين ولكم قدحين ولي قدحين , فمن خرج له شيء كان له، فقالوا له: قد أنصفت , وقد رضينا , فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش ثم أعطوها الذي يضرب بالقداح , وقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:


                                        اللهم أنت الملك المحمود ربي وأنت المبدئ المعيد     وممسك الراسية الجلمود
                                        من عندك الطارف والتليد     إن شئت ألهمت لما تريد
                                        لموضع الحلية والحديد     فبين اليوم لما تريد
                                        إني نذرت عاهد العهود


                                        اجعله رب لي ولا أعود

                                        وضرب صاحب القداح القداح , فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة فضربهما عبد المطلب في باب الكعبة فكانا أول ذهب حليته، وخرج الأسودان على السيوف والأدراع لعبد المطلب فأخذها , وكانت قريش ومن سواهم من العرب في الجاهلية إذا اجتهدوا في الدعاء سجعوا فألفوا الكلام [ ص: 97 ] ، وكانت فيما يزعمون قلما ترد إذا دعا بها داع.

                                        قال ابن إسحاق : فلما حفر عبد المطلب زمزم ودله الله عليها وخصه بها زاده الله تعالى بها شرفا وخطرا في قومه، وعطلت كل سقاية كانت بمكة حين ظهرت، وأقبل الناس عليها التماس بركتها ومعرفة فضلها لمكانها من البيت، وأنها سقيا الله عز وجل لإسماعيل عليه السلام.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية