الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 191 ] 821 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دفعه : أن الناس يعذبون في قبورهم ، لما سئل عن ذلك بعد قول اليهودية لعائشة : أعاذك الله من عذاب القبر

5195 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب : أن مالكا حدثه

5196 - وحدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، ثم اجتمعا جميعا ، فقالا : عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ابنة عبد الرحمن ، عن عائشة : أن يهودية جاءت تسألها ، فقالت أعاذك الله من عذاب القبر ، فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيعذب الناس في قبورهم ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائذا بالله من ذلك .

ثم ركب رسول الله ذات غداة مركبا ، فخسفت الشمس ، فرجع ضحى ، فمر بين ظهراني الحجر ، فقام يصلي .... فذكرت صلاة الكسوف وكيف صلاها ، قالت : ثم انصرف ، فقال ما شاء الله أن يقول ، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر
.

[ ص: 192 ] ففي هذا الحديث بدءا دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون الناس يعذبون في قبورهم ، وأمره الناس بعد ذلك أن يتعوذوا من عذاب القبر .

فكان دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك بدءا عندنا - والله أعلم - قبل أن يوحى إليه أن الناس يعذبون في قبورهم ، ثم أوحي إليه بعد ذلك : أنهم يعذبون في قبورهم ، فأمرهم أن يتعوذوا بالله من ذلك .

فقال قائل : وكيف تقبلون هذا ؟ وقد رويتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر .

5197 - ما قد حدثنا محمد بن عزيز الأيلي ، قال : حدثنا سلامة بن روح ، عن عقيل بن خالد ، قال : قال ابن شهاب : وحدثني ابن أبي نملة : [ ص: 193 ] أن أبا نملة الأنصاري ، أخبره : أنه بينما هو جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من اليهود ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله أعلم " . فقال اليهودي : أنا أشهد أنها تتكلم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله ، وكتبه ، ورسله ، فإن كان حقا ، لم تكذبوهم ، وإن كان باطلا ، لم تصدقوهم .

[ ص: 194 ]

5198 - وما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني ابن أبي نملة : أن أبا نملة الأنصاري أخبره ، ثم ذكر مثله .

قال : ففي هذا الحديث أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يكذبوا أهل الكتاب بما حدثوهم به ، ولا يصدقوهم ، إذ كانوا قد قرؤوا من كتب الله ما لم يقرأه المحدثون بذلك من أمته ، وفي الحديث الأول دفع ما حدثته به عائشة عن اليهودية وهذا تضاد شديد !

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل وعونه - : أنه قد يحتمل أن يكون الذي كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول ، كان قبل أن يؤمر بالالتفات إلى ما حدثه به أهل الكتاب ، ثم أمر بعد ذلك بالوقوف عنده ، وترك التصديق به ، والتكذيب له ، فكان ما حدثوه به ، له دفعه ، كما للرجل دفع ما لم يعلمه ، وإن كان في الحقيقة حقا ، ألا ترى أن رجلا لو ادعى على رجل مالا ، أنه له عليه ، والمدعى عليه لا يعلم بذلك ، أنه في سعة من إنكاره إياه ، ومن حلفه له عليه ، وإن كان قد يجوز أن يكون له عليه ، فذهبت عنه معرفته ، أو كان منه [ ص: 195 ] بانقلابه في نومه على مال له ، فأتلفه عليه ، فوجبت له عليه قيمته ، وهي المال الذي ادعاه عليه .

وكان مثل ذلك ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ما لا يعلم ، كان في سعة من نفيه ، وإن كان قد يحتمل أن يكون في الحقيقة بخلاف ما هو عليه عنده ، ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يقابل مثل ذلك إذا قيل له بمثل ما في الحديث الثاني ، وإن كان ما في الحديث الأول واسعا له ، مع أنا قد تأملنا حديث عمرة الذي بدأنا بذكره في هذا الباب عن عائشة ، فوجدنا غير واحد من الرواة عن عائشة قد خالفوها عنها ، فمنهم مسروق بن الأجدع :

5199 - كما حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا محمد بن سابق ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أتتني عجوز يهودية ، فقالت : يعذب أهل القبور ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : صدقت ، يعذب أهل القبور عذابا تسمعه البهائم .

5200 - وكما حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي ، قال : حدثنا الهيثم بن جميل ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : دخل علي عجوزان من عجائز يهود المدينة [ ص: 196 ] قالتا لي: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم ، فكذبتهما ، ولم أصدقهما ، فخرجتا ، ودخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله إن عجوزين دخلتا علي ، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون ، فقال : صدقتا ، إنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم كلها .

فقالت عائشة : فما رأيته بعد ذلك في صلاة ، إلا يتعوذ من عذاب القبر
.

ومنهم ذكوان .

[ ص: 197 ]

5201 - حدثنا نصر بن مرزوق ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس وأسد ، قالا : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن ذكوان ، عن عائشة ، قالت : استطعمت يهودية ، فقالت : أطعموني ، أعاذكم الله من فتنة الدجال ، ومن فتنة عذاب القبر ، فقلت : يا رسول الله ، ما تقول هذه اليهودية ؟ قال : " وما قالت؟ " قلت : فإنها قالت : أعاذكم الله من فتنة الدجال ، وفتنة عذاب القبر ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع يديه ، فبدأ يستعيذ بالله من فتنة الدجال وعذاب القبر .

وقد روى عروة بن الزبير ، عن عائشة في ذلك :

5202 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، قال : حدثنا يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : أن يهودية دخلت عليها وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : أشعرت أنكم تفتنون في القبور ؟ فارتاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " إنما تفتن يهود " .

قالت عائشة : فلبثنا ليالي ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : أما شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ؟ " قالت : ثم سمعت رسول الله [ ص: 198 ] - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من عذاب القبر
.

قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث ما قد دل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان دفع ذلك في البدء قبل أن يوحى إليه أنهم يفتنون في قبورهم ، ثم أوحي إليه أنهم يفتنون في قبورهم ، فرجع إلى التصديق بذلك ، والاستعاذة منه .

وفي هذا ما قد دل على موافقة عروة عمرة على ما روت من ذلك عن عائشة ، وكان هذا عندنا - والله أعلم - أولى بما روي عن عائشة مما رواه مسروق وذكوان عنها ; لأن في هذا تقدم دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثم إثباته إياه بعد ذلك .

فكان الذي كان عند مسروق وذكوان في ذلك ، هو الأمر الثاني ، وكان الذي كان عند عروة وعمرة ، الأمر الأول ، والأمر الثاني ، فكانا بذلك أولى ، وكانا بما حفظا من ذلك قد حفظا ما قصر مسروق وذكوان عن حفظه ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية