الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4648 ص: وإنما احتجنا إلى ذكر ما روي في ليلة القدر لما قد اختلف فيه أصحابنا من قول الرجل لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟

                                                قال أبو حنيفة: إن قال لها ذلك قبل شهر رمضان لم يقع الطلاق حتى يمضي شهر رمضان كله لما قد اختلف في موضع ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، على ما قد ذكرنا في هذا الباب، مما روي أنها في الشهر كله ومما روي أنها في خاص منه، قال: فلا أحكم بوقوع الطلاق إلا بعد مضي الشهر ؛ كله؛ لأني أعلم بذلك أنه قد مضى الوقت الذي أوقع الطلاق فيه، وأن الطلاق قد وقع.

                                                قال: وإن قال ذلك لها في شهر رمضان في أوله أو في آخره أو في وسطه لم يقع الطلاق حتى يمضي ما بقي من ذلك الشهر، وحتى يمضي شهر رمضان أيضا كله من السنة القابلة.

                                                قال: لأنه قد يجوز أن تكون فيما مضى من هذا الشهر الذي هو فيه، فلا يقع الطلاق حتى يمضي شهر رمضان كله من السنة الجائية، وقد يجوز أن تكون فيما بقي من ذلك الشهر الذي هو فيه فيقع الطلاق فيها، ويكون كمن قال قبل شهر رمضان لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، فيكون الطلاق لا يحكم به عليه إلا بعد مضي شهر رمضان، قال: فلما أشكل ذلكم، لم أحكم بوقوع الطلاق إلا بعد علمي بوقوعه،

                                                [ ص: 259 ] ولا أعلم ذلك إلا بعد مضي شهر رمضان الذي هو فيه، وشهر رمضان الجائي.

                                                فهذا مذهب أبي حنيفة في هذا الباب، وكان أبو يوسف قال مرة هذا القول أيضا، وقال مرة أخرى: إذا قال لها ذلك القول في بعض شهر رمضان، لم يحكم بوقوع الطلاق حتى يمضي مثل ذلك الوقت من شهر رمضان من السنة الجائية.

                                                قال: لأن ذلك إذا كان فقد كمل حول منذ قال ذلك القول، فهي في كل حول فعلمنا بذلك وقوع الطلاق.

                                                قال أبو جعفر: : وهذا القول عندي ليس بشيء؛ لأنه لم ينقل لنا أن كل حول يكون فيه ليلة القدر، على أن ذلك الحول ليس فيه شهر رمضان بكماله من سنة واحدة، وإنما كان نقل لنا أنها في شهر رمضان من كل سنة، هكذا ولنا عليه كتاب الله، وقاله لنا رسول الله -عليه السلام-، على ما قد ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب.

                                                فلما كان ذلك كذلك احتمل أن يكون إذا قال لها في بعض شهر رمضان: أنت طالق ليلة القدر أن تكون ليلة القدر فيما مضى من ذلك الشهر، . فيكون إذا مضى حول من حينئذ إلى مثله من شهر رمضان من السنة الجائية لا ليلة فيه، ففسد بما ذكرنا قولأبي يوسف الذي وصفنا وثبت على هذا الترتيب ما ذهب إليه أبو حنيفة.

                                                وقد كان أبو يوسف قال مرة أخرى: إذا قال لها ذلك القول في بعض شهر رمضان؛ أن الطلاق لا يقع حتى تمضي ليلة سبع وعشرين، وذهب في ذلك فيما نرى والله أعلم إلى ما روي عن النبي -عليه السلام- فيه أنها في ليلة القدر من شهر رمضان بعينها هو حديث بلال وحديث أبي بن كعب . -رضي الله عنه-، فإذا مضت ليلة سبع وعشرين علم أن ليلة القدر قد كانت، فحكم بوقوع الطلاق، وقبل ذلك فليس يعلم كونها؛ فلذلك لم يحكم بوقوع الطلاق.

                                                فهذا القول تشهد له الآثار التي رويناها في هذا الباب عن النبي -عليه السلام-.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا كله واضح لظهوره.

                                                قوله: "وقال مرة أخرى ... " إلى آخره، أراد أن أبا يوسف ذهب في هذا القول إلى أن ليلة القدر تكون في جميع السنة، كما قد ذهب إليه طائفة، واختار الإمام [ ص: 260 ] أبو بكر الرازي هذا القول حيث قال في كتابه "الأحكام": هذه الأخبار كلها جائز أن تكون صحيحة -وأراد بها الأحاديث التي وردت في ليلة القدر- فتكون في سنة في بعض الليالي، وفي سنة أخرى في غيرها، وفي سنة في العشر الأواخر من رمضان، وفي سنة أخرى في العشر الأوسط، وفي سنة في العشر الأول، وفي سنة في غير رمضان، ولم يقل عبد الله بن مسعود "من يقم الحول يصبها" إلا من طريق التوقيف، ولا يعلم ذلك إلا بوحي من الله إلى نبيه -عليه السلام- فثبت بذلك أن ليلة القدر غير مخصوصة بشهر في السنة، وأنها قد تكون في سائر السنة، ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لامرأته: "أنت طالق في ليلة القدر" أنها لا تطلق حتى يمضي حول؛ لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت أنها مخصوصة بوقت، فلا يجعل اليقين بوقوع الطلاق إلا بمضي حول.

                                                قلت: قد أفسد الطحاوي هذا القول الذي ذهب إليه الرازي فيما مضى، فالذي ذكره الرازي ليس مذهب أبي حنيفة، والمذهب هو الذي بينه الطحاوي .

                                                وقال شمس الأئمة في "المبسوط" : ذكر الفقيه أبو جعفر أن المذهب عند أبي حنيفة أن ليلة القدر تكون في شهر رمضان، ولكنها تتقدم وتتأخر، وعلى قول أبي يوسف ومحمد تكون في شهر رمضان لا تتقدم ولا تتأخر، وفائدة هذا الخلاف أن من قال لعبده: أنت حر ليلة القدر؛ فإن قال ذلك قبل دخول شهر رمضان عتق إذا انسلخ الشهر، وإن قال ذلك بعد مضي ليلة من الشهر لم يعتق حتى ينسلخ شهر رمضان من العام القابل، في قول أبي حنيفة؛ لجواز أنها كانت في الشهر الماضي في الليلة الأولى من الشهر، وعلى قول أبي يوسف ومحمد إذا مضى من الشهر في العام القابل فجاء الوقت الذي حلف؛ عتق لأنها عندهما لا تتقدم ولا تتأخر، بل هي ليلة من الشهر في كل وقت؛ فإذا جاء الوقت فقد تيقنا بمجيء الوقت المضاف إليه العتق بعد يمينه، فهذا عتق والله أعلم. انتهى.

                                                [ ص: 261 ] وقد ذكر بعض أصحابنا أنه عن أبي حنيفة روايتان: في رواية: أن ليلة القدر تدور في كل سنة، وفي أخرى: تدور في كل رمضان كله، وهي المختارة، وهي قول أبي يوسف ومحمد، وعند الشافعي ومالك وأحمد تدور في العشر الأخير، وذكر النووي في "الروضة": مذهب جمهور العلماء أنها في العشر الأواخر من رمضان، وفي أوتارها أرجى، ومال الشافعي: إلى أنها ليلة الحادي والعشرين، ومال في موضع آخر إلى ليلة ثلاث وعشرين، وعند المزني هي متنقلة في ليالي العشر، تنتقل كل سنة إلى ليلة. انتهى.

                                                ومذهب مالك: أرجاها في تسع بقين أو سبع بقين أو خمس بقين، وعند أحمد يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان، وفي العشر الأخير آكد، وفي ليالي الوتر آكد.

                                                ***




                                                الخدمات العلمية