الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5642 5643 5644 ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ذلك النهي قد وقع على الطعام وغير الطعام، وإن كان المذكور في الآثار التي ذكر ذلك النهي فيها هو الطعام.

                                                واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا أحمد بن خالد الوهبي ، قال: ثنا ابن إسحاق ، عن أبي الزناد ، عن عبيد بن حنين ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "ابتعت زيتا بالسوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت إليه، فإذا زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله -عليه السلام- نهانا أن نبيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". .

                                                فلما أخبر زيد -رضي الله عنه- عن رسول الله -عليه السلام- بأن الزيت قد دخل فيما كان نهي عن بيعه قبل قبضه -وهو غير الطعام الذي كان ابن عمر علم من رسول الله -عليه السلام- النهي عن منعه بعد ابتياعه حتى يقبض، وعمل ابن عمر على ذلك، فأراد بيع الزيت قبل قبضه، لأنه ليس من الطعام، فقبل ذلك منه ابن عمر -رضي الله عنهما-، ولم يكن ما كان سمع من رسول الله -عليه السلام-مما ذكرناه عنه في أول هذا الباب من قصده إلى الطعام- بمانع [ ص: 545 ] أن يكون غير الطعام في ذلك بخلاف الطعام، ثم أكد زيد بن ثابت -رضي الله عنه- الأمر في ذلك، فقال: "كان رسول الله -عليه السلام- ينهانا عن ابتياع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" فجمع بذلك كل السلع، وفيها غير الطعام.

                                                فدل ذلك على أنه لا يجوز بيع شيء ابتيع إلا بعد قبض مبتاعه إياه، طعاما كان أو غيره، وقد قال ابن عباس: -رضي الله عنهما-، وقد علم من رسول الله -عليه السلام- قصده بالنهي عن بيع ما لم يقبض إلى الطعام ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال: "أما الذي نهى عنه رسول الله -عليه السلام- فبيع الطعام قبل أن يستوفى، قال ابن عباس: برأيه: وأحسب كل شيء مثله".

                                                فهذا ابن عباس: لم يمنعه قصد النبي -عليه السلام- بالنهي إلى الطعام أن يدخل في ذلك النهي غير الطعام.

                                                وقد روي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- مثل ذلك أيضا:

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير، عن جابر: "في الرجل يبتاع البيع فيبيعه قبل أن يقبضه، قال: أكرهه".

                                                فهذا جابر -رضي الله عنه- قد سوى بين الأشياء المبيعة في ذلك، وقد علم من رسول الله -عليه السلام- قصده -بالنهي عن البيع فيه حتى يقبض- إلى الطعام بعينه، فدل ذلك على ما قد تقدم وصفنا لذلك.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين فيما ذهبوا إليه جماعة آخرون، وأراد بهم:

                                                عطاء بن أبي رباح والثوري وابن عيينة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا والشافعي في الجديد، ومالكا في رواية، وأحمد في رواية، وأبا ثور وداود، فإنهم قالوا: النهي المذكور في الأحاديث المذكورة قد وقع على الطعام وغيره، وهو مذهب ابن عباس أيضا، ولكن أبا حنيفة قال: لا بأس ببيع الدور والأرضين قبل القبض، لأنها لا تنقل، ولا تحول وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: قال أبو حنيفة هذا الحكم -يعني عدم جواز البيع قبل القبض- في كل مبيع ينقل ويحول. وقال الشافعي: هو في [ ص: 546 ] كل مبيع. وقال أبو حنيفة: أما المهر والجعل وما يؤخذ في الخلع من طعام أو غيره فيجوز بيعه قبل قبضه. قال: وما ملك بالشراء -أو بالإجارة- فلا يجوز بيعه قبل القبض إلا العقار وحده، ومنعه الشافعي في كل مبيع؛ عقارا أو غيره، وهو قول الثوري وابن عيينة ومحمد بن الحسن .

                                                وهو مذهب ابن عباس وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-.

                                                قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن النهي المذكور عام يتناول الطعام وغيره، وإن كان المذكور -في الأحاديث التي ذكر فيها النهي المذكور- فيها هو الطعام، بحديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، فإنه أخبر عن النبي بأن الزيت قد دخل في الذي نهى -عليه السلام- عن بيعه قبل القبض، والزيت غير الطعام الذي قد علم ابن عمر -رضي الله عنهما- من النبي -عليه السلام- النهي عن بيعه بعد الشراء قبل القبض.

                                                ثم إن ابن عمر -رضي الله عنهما- قد عمل بما قال له زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، والحال أن ما كان سمع منه -عليه السلام- ما قد تقدم ذكره في أول الباب من قصده إلى الطعام لم يكن مانعا أن يكون غير الطعام في ذلك بخلاف الطعام.

                                                ثم إن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قد أكد عموم النهي وتناوله للطعام وغيره بقوله: "كان رسول الله -عليه السلام- نهانا عن ابتياع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" فقوله: "السلع" يتناول كل سلعة كانت، وهي أعم من أن تكون طعاما أو غيره، فدل ذلك على أنه لا يجوز بيع شيء اشتراه الرجل إلا بعد قبضه؛ سواء كان طعاما أو غيره، ويؤكد ما ذكرنا أيضا قول ابن عباس: "أما الذي نهى عنه رسول الله -عليه السلام-: فبيع الطعام قبل أن يستوفى"، ثم قال برأيه: "وأحسب كل شيء مثله".

                                                فكلامه هذا يدل على أن قصد النبي -عليه السلام- بالنهي إلى الطعام لم يمنع فيه أن يدخل في النهي المذكور غير الطعام؛ لأن ابن عباس قد علم منه -عليه السلام- ذلك القصد، ثم قال: "وأحسب كل شيء مثله".

                                                [ ص: 547 ] وكذلك جابر بن عبد الله قد علم من رسول الله -عليه السلام- قصده بالنهي عن البيع قبل القبض إلى الطعام، ثم قال في الرجل يبتاع البيع فيبيعه قبل أن يقبضه قال: "أكرهه" فعمم في كلامه؛ لأن قوله: "يبتاع البيع" يتناول الطعام وغيره.

                                                فدل هذا كله أن المراد من النهي عن البيع قبل القبض عام، يتناول الطعام وغيره، وإن كانت الأحاديث المذكورة قد عين فيها الطعام بالوجه الذي ذكرناه.

                                                فإن قيل: دليل خطاب الأحاديث المذكورة في أول الباب يقتضي جواز بيع غير الطعام قبل القبض؛ لأن سائر المكيلات لو كان بيعها ممنوعا قبل القبض لما خص الطعام بالذكر، فلما خصه؛ دل على أن ما عداه بخلافه.

                                                قلت: الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك فيتناول سائر المطعومات من المكيلات وغيرها، والطعام يطلق على غير ما يؤكل أيضا، فإنه أطلق على ماء زمزم على ما جاء في الحديث "أنها طعام طعم وشفاء سقم" ولئن سلمنا أن الطعام مقتصر على ما يطعم أو على الحنطة خاصة، ولكن ما ذكرنا من حديث زيد وغيره يدل على أن تعيين الطعام في الأحاديث المذكورة ليس المراد منه تخصيصه، بل حكم غيره مثل حكمه، لأن النهي لأجل أن فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه؛ لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض بطل البيع الأول، فينفسخ الثاني؛ لأنه بناء على الأول، وقد "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع فيه غرر" رواه مسلم [ ص: 548 ] والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

                                                ثم حديث زيد بن ثابت أخرجه بإسناد حسن جيد عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي الحمصي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن إسحاق المدني ، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان ، عن عبيد بن حنين المدني -روى له الجماعة.

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا محمد بن عوف الطائي، قال: نا أحمد بن خالد الوهبي، قال: نا محمد بن إسحاق ... إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه الدارقطني والبيهقي أيضا.

                                                فإن قلت: كيف قلت: إسناده جيد حسن وقد قال ابن حزم: حديث زيد بن ثابت هذا رواه أحمد بن خالد الوهبي وهو مجهول؟!

                                                قلت: هذا كلام ساقط؛ لأن الوهبي رجل مشهور روى عنه أئمة حفاظ، وقد وثقه يحيى، واحتج به الأربعة.

                                                قوله: "ابتعت زيتا" أي اشتريت.

                                                قوله: "فأردت أن أضرب على يده" أي أعقد به البيع لأن من عادة المتبايعين أن يضع أحدهما يده في يد الآخر عند عقد التبايع.

                                                قوله: "حتى تحوزه إلى رحلك" أي حتى تضمه وتسوقه إلى منزلك، يقال: حازه يحوزه إذا قبضه وملكه واستبد به.

                                                ورحل الرجل: منزله ومسكنه.

                                                [ ص: 549 ] وأما أثر ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس اليماني ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه البخاري ومسلم : من حديث عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس يقول: "أما الذي نهى عنه رسول الله -عليه السلام- فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله".

                                                ولفظ مسلم: أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله".

                                                وأما أثر جابر -رضي الله عنه- فأخرجه أيضا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري ، عن عبد الملك بن جريج ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.

                                                وأخرجه عبد الرزاق ، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه.




                                                الخدمات العلمية