الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4542 4543 4544 4545 4546 [ ص: 152 ] ص: وكان من الحجة لهم في حديث جابر الذي احتج به عليهم أهل المقالة الأولى: أنه قد يجوز أن [يكون] ما ذكرنا فيه [كان] في وقت ما لم يكن الإحداد يجب في كل العدة، فإنه قد كان ذلك كذلك.

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال (ح).

                                                وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حبان (ح).

                                                وحدثنا فهد ، قال: ثنا أحمد بن يونس (ح).

                                                وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا جبارة بن المغلس (ح).

                                                وحدثنا ربيع المؤذن وسليمان بن شعيب قالا: ثنا أسد، قالوا: ثنا محمد بن طلحة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الله بن شداد ، عن أسماء بنت عميس قالت: "لما أصيب جعفر -رضي الله عنه- أمرني رسول الله -عليه السلام- فقال: تسلبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت". .

                                                ففي هذا الحديث أن الإحداد لم يكن على المعتدة في كل عدتها، وإنما كان في وقت منها خاص، ثم نسخ ذلك وأمرت أن تحد عليه أربعة أشهر وعشرا.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين، وأراد بها الجواب عن حديث جابر الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيان ذلك أن يقال: إن إذن النبي -عليه السلام- لخالة جابر بالخروج في عدتها يحتمل أن يكون إنما كان في وقت لم يكن فيه الإحداد واجبا في كل العدة بل في أيام مخصوصة كما يدل عليه حديث أسماء بنت عميس؛ فإنه لما أصيب زوجها جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- في غزوة مؤتة في سنة ثمان من الهجرة أمرها رسول الله -عليه السلام- بالتسلب وهو لبس ثوب الحداد ثلاثة أيام، ثم قال لها: "اصنعي ما شئت" فهذا يدل على أن الإحداد لم يكن على المعتدة في جميع عدتها، بل كان في وقت منها معين، ثم نسخ ذلك بأحاديث زينب بنت جحش وعائشة [ ص: 153 ] وأم سلمة وأم حبيبة وغيرهن على ما يجيء إن شاء الله، وأمرت المعتدة بالإحداد عليه أربعة أشهر وعشرا، وكلهم أجمعوا على هذا النسخ لتركهم حديث أسماء بنت عميس واستعمالهم أحاديث هؤلاء المذكورات، فإن كان كذلك؛ يحتمل أن يكون ما أمرت به خالة جابر كان والإحداد إنما هو في ثلاثة أيام من العدة ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة؛ فكذلك نسخ الآخر بذلك أيضا؛ فإن جابرا -رضي الله عنه- قد روى عن النبي -عليه السلام- في إذنه لخالته في الخروج، ثم قال هو بخلافه على ما يأتي، فهذا أيضا دليل على ثبوت نسخ ذلك عنده؛ إذ لو لم يكن عنده علم من النبي -عليه السلام- بأن ذاك منسوخ لم يكن يقدم إلى القول بخلاف ما روى؛ وذلك لأن الراوي إذا ظهر منه المخالفة قولا أو فعلا لما رواه، لا يخلو عن حالات: إما أن تكون روايته تلك تقولا منه لا عن سماع، أو تكون فتواه وعمله بخلاف روايته على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث، أو عن غفلة ونسيان، أو يكون ذلك منه على أنه علم انتساخ حكم روايته. فكل هذا يستحيل في حق الصحابي إلا الوجه الأخير وهو أن يكون قد علم انتساخ حكم روايته فأفتى بخلافها أو عمل بخلافها؛ وإنما قلنا: إن هذه الأشياء تستحيل في حق الصحابي إلا الوجه الأخير؛ لأن في الوجه الأول يكون الراوي كذابا، وفي الوجه الثاني يكون فاسقا، وفي الوجه الثالث يكون مغفلا، وكل هذه تسقط الرواية، والصحابة -رضي الله عنهم- منزهون عن هذه الأشياء؛ فتعين الوجه الأخير، فافهم.

                                                ثم إنه أخرج حديث أسماء بنت عميس من خمس طرق:

                                                الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن حبان -بفتح الحاء، وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي البصري ، عن محمد بن طلحة بن مصرف اليامي ، عن الحكم بن عتيبة -بضم العين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي المدني ، عن خالته أسماء بنت عميس الخثعمية أخت ميمونة بنت الحارث -زوج النبي -عليه السلام- لأمها.

                                                [ ص: 154 ] وهذا إسناد صحيح، وأخرجه البيهقي في "سننه" : من حديث محمد بن طلحة بن مصرف ، عن الحكم ، عن عبد الله بن شداد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

                                                ثم قال البيهقي: لم يثبت سماع ابن شداد منها، ومحمد ليس بالقوي، وقد قيل فيه: "إن أسماء" مرسل.

                                                قلت: عبد الله بن شداد لم يذكر من المدلسين، والعنعنة من غير المدلس محمول على الاتصال إذا ثبت اللقاء أو أمكن على الاختلاف المعروف بين البخاري ومسلم، ولا يشترط ثبوت السماع. وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم: أن "عن" و"أن" سواء. قال: وأجمعوا على أن قول الصحابي: عن رسول الله -عليه السلام-، أو: أن رسول الله -عليه السلام- قال، أو: سمعت؛ سواء.

                                                ومحمد بن طلحة بن مصرف اتفق الشيخان عليه. فكيف يقول البيهقي: ومحمد ليس بالقوي؟ وقد جاء لحديثه هذا متابعة وشاهد. أخرجه قاسم بن أصبغ من طريق شعبة: ثنا الحكم ، عن عبد الله بن شداد: "أنه -عليه السلام- قال لامرأة جعفر: إذا كان ثلاثة أيام أو بعد ثلاثة أيام البسي ما شئت".

                                                وروي أيضا من طريق الحجاج بن أرطاة ، عن الحسن بن سعد ، عن عبد الله بن شداد: "أن أسماء استأذنت النبي -عليه السلام- أن تبكي على جعفر، فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث لها: أن تطهري واكتحلي" ذكره ابن حزم في "المحلى" ، وذكر الحافظ ابن منده أيضا رواية ابن سعد في "معرفة الصحابة".

                                                وأخرج أحمد في "مسنده" : ثنا يزيد، نا محمد بن طلحة، ثنا الحكم بن عتيبة، [ ص: 155 ] عن عبد الله بن شداد ، عن أسماء بنت عميس قالت: "دخل علي رسول الله -عليه السلام- اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال: لا تحدي بعد يومك هذا".

                                                الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن حبان بن هلال أيضا، عن محمد بن طلحة ... إلى آخره.

                                                وهذا أيضا صحيح.

                                                الثالث: عن فهد بن سليمان ، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم ، عن محمد بن طلحة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الطبراني : ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن منهال وعاصم بن علي وأحمد بن يونس، قالوا: نا محمد بن طلحة بن مصرف ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، عن أسماء بنت عميس قالت: "لما أصيب جعفر أمرني رسول الله -عليه السلام- فقال: تسلبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت".

                                                الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن جبارة بن مغلس الحماني الكوفي شيخ ابن ماجه ، فيه مقال، عن محمد بن طلحة ... إلى آخره.

                                                الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي ، وسليمان بن شعيب الكيساني، كلاهما عن أسد بن موسى ، عن محمد بن طلحة ... إلى آخره.

                                                قوله: "لما أصيب جعفر" وهو جعفر بن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وابن عم النبي -عليه السلام- وكان قد أصيب في غزوة مؤتة كما ذكرناه عن قريب.

                                                قوله: "تسلبي" أمر من سلب تتسلب، ومعناه: البسي ثوب الحداد، وهو السلاب، والجمع سلب وتسلبت المرأة إذا لبسته، وقيل: هو ثوب أسود تغطي به المحد رأسها، ومنه حديث بنت أم سلمة: "أنها بكت على حمزة ثلاثة أيام فتسلبت".

                                                [ ص: 156 ] وقد احتج الحكم بن عتيبة بهذا الحديث أن المتوفى عنها زوجها لا حداد عليها، وقد ذكرنا أنه منسوخ فلا يعمل به. والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية