الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5644 ص: وفي ذلك حجة أخرى: أن المعنى الذي حرم به على مشتري الطعام بيعه قبل قبضه، هو أنه لا يطيب له ربح ما في ضمان غيره، فإذا قبضه صار في ضمانه، فطاب له ربحه، فجاز أن يبيعه متى أحب، والعروض المبيعة هذا المعنى بعينه موجود فيها، وذلك أن الربح فيها قبل قبضها غير حلال لمبتاعها؛ لأن النبي -عليه السلام- قد نهى عن ربح ما لم يضمن.

                                                [ ص: 552 ] فلما كان ذلك قد دخل فيه الطعام وغير الطعام، ولم يكن الربح يطيب لأحد إلا بتقدم ضمانه، لما كان عنه ذلك الربح، فكذلك الأشياء المبيعة كلها ما كان منها يطيب الربح فيه لبائعه، فحلال له بيعه، وما كان منها يحرم الربح فيه على بائعه، فحرام عليه بيعه.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وفي عموم النهي وتناوله الطعام وغيره حجة أخرى، حاصل ذلك أن بيع المبيع قبل قبضه يستلزم ربح ما لم يضمن، وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن ربح ما لم يضمن على ما نبينه الآن إن شاء الله تعالى. بيان ذلك أن المبيع ما لم يقبض هو في ضمان البائع، حتى إذا هلك يهلك من ماله دون مال المشتري، فإذا باعه المشتري قبل قبضه يكون فيه ربح ما في ضمان غيره، فلا يطيب له ذلك، فإذا قبضه دخل في ضمانه، حتى إذا هلك يهلك من ماله دون مال البائع، فإذا باعه بعد القبض يكون فيه ربح ما في ضمان نفسه، فيطيب له ذلك على أي وجه كان.

                                                ثم هذا المعنى يستوي فيه الطعام وغيره من العروض والسلع، فدل ذلك أن النهي عن بيع ما لم يقبض يتناول الطعام وغيره، وقد أجاب بعض المالكية عن هذا فقال: إن النهي عن ربح ما لم يضمن محمول على بيع الخيار، وأن يبيع المشتري قبل أن يختار، أو هو محمول على الطعام، ثم يخص عمومه إذا حملته على بيع الخيار وأن يبيع المشتري قبل أن يختار، أو هو محمول على الطعام ثم يخص عمومه إذا حملناه على الطعام بإحدى طريقتين:

                                                إما دليل الخطاب في قوله: "نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى" فدل أن ما عداه بخلافه.

                                                أو يخص بما ذكره ابن عمر -رضي الله عنهما- من أنهم كانوا يبيعون الإبل بالدراهم ويأخذون عنها ذهبا، أو بالذهب، ويأخذون عنها دراهم وأضاف إجازة ذلك إلى النبي -عليه السلام- وهذا إجازة ربح ما لم يضمن في العين، ونقيس عليه ما سوى الطعام ونخص به النهي عن ربح ما لم يضمن، ويحمل قول ابن عمر من منع بيع الطعام [ ص: 553 ] الجزاف حتى يؤوه إلى رحالهم؛ على الاستحباب، والرواية التي فيها ذكر ضربهم، وهو أنهم كانوا يضربون على عهد النبي -عليه السلام- إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يحركوه، تحمل على أنه فعل ذلك حماية للذريعة وعلى أنهم اتخذوا ذلك غيبة ممنوعة.

                                                وقال هؤلاء أيضا: إن الملك ينتقل بنفس العقد بدليل أن المبيع لو كان عبدا فأعتقه المشتري قبل القبض عتق، وإذا ثبت الملك جاز التصرف، ما لم يكن فيه إبطال حق لغيره.

                                                والجواب عن ذلك أن ما ذكر كله فاسد:

                                                أما الأول: فلأن نهيه -عليه السلام- عن ربح ما لم يضمن عام، وحمله على بيع الخيار تحكم ليس فيه دليل.

                                                وأما الثاني: فممنوع؛ لأن تعليق الخبر بالاسم لا يدل على نفيه ما عداه، وقد قلنا إن تنصيص الطعام بالذكر ليس لأجل التعيين والتقييد، وأنه لا ينافي أن يكون غير الطعام في ذلك كالطعام.

                                                وأما الثالث: فلأن أخذ الذهب عن الدراهم، أو أخذ الدراهم عن الذهب ليس مما نحن فيه؛ لأنه لا يقصد به الربح حتى يدل على إجازة ربح ما لم يضمن، وإنما يراد به الاقتضاء والاقتصاص، والنقود مخالفة لغيرها من الأشياء، وبعضها ينوب عن بعض، وللحاكم أن يحكم على من أتلف على إنسان مالا بأيهما شاء، لأنهما كالنوع الواحد في هذا المعنى.

                                                وأما الرابع: فلأن العتق إتلاف، وإتلاف المشتري عين المبيع يقوم مقام القبض، فافهم.

                                                وأما حديث النهي عن ربح ما لم يضمن فأخرجه أبو داود : ثنا زهير بن حرب، نا إسماعيل -هو ابن علية- عن أيوب السختياني، حدثني عمرو بن [ ص: 554 ] شعيب، حدثني أبي، عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك".

                                                وأخرجه الترمذي أيضا : عن أحمد بن منيع ، عن إسماعيل .. إلى آخره نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

                                                وأخرجه النسائي أيضا.

                                                وأخرجه الطحاوي في الباب الذي يأتي، وسيأتي إن شاء الله تعالى.




                                                الخدمات العلمية