الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4535 ص: قيل له: لو خرج معنى حديث فاطمة من حيث ذكرت لوقع الوهم على عمر وعائشة وأسامة -رضي الله عنهم-، ومن أنكر ذلك على فاطمة معهم، وقد كان ينبغي أن ينزل أمرهم على الصواب حتى يعلم يقينا ما سوى ذلك، فكيف ولو صح حديث فاطمة لكان قد يجوز أن يكون معناه على غير ما حملته أنت عليه؛ وذلك أنه قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- حرمها السكنى لبذائها كما ذكرت ورأى أن ذلك هو الفاحشة التي قال الله -عز وجل-.

                                                وحرمها النفقة لنشوزها ببذائها التي خرجت به من بيت زوجها؛ لأن المطلقة لو خرجت من بيت زوجها في عدتها لم تجب لها نفقة حتى ترجع إلى منزله، فكذلك فاطمة منعت من النفقة لنشوزها الذي به خرجت من منزل زوجها، فهذا معنى قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراده إن كان حديث فاطمة صحيحا، وقد يجوز أن يكون أراد ما وصفت أنت، وقد يجوز أن يكون أراد معنى غير هذين مما لا يبلغه علمنا، ولا نحكم على رسول الله -عليه السلام- أنه أراد في ذلك معنى بعينه دون معنى، كما حكمت أنت عليه؛ لأن القول عليه بالظن حرام كما القول بالظن على الله حرام، وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في الفاحشة المبينة غير ما قال ابن عباس:

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر: "قال في قول الله -عز وجل- ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قال: خروجها من بيتها فاحشة مبينة".

                                                [ ص: 135 ] وقد قال آخرون: إن الفاحشة المبينة أن تزني فتخرج ليقام عليها الحد، . فمن جعل لك أن تثبت ما روي عن ابن عباس في تأويل هذه الآية، وتحتج به على مخالفك وتدع ما قال ابن عمر؟!

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قيل لهذا المخالف، وأراد به الجواب عن ما قاله الشافعي وهو ظاهر.

                                                وأبين من ذلك ما قال الطحاوي في كتابه "الأحكام": فأما ما ذهب إليه الشافعي من إبطال النفقة على فاطمة؛ لأنها كانت غير ذات حمل فإنما تأول ذلك في حديثها ولم نجده منصوصا وقد تأوله غيره على غير ما تأوله عليه، فتأوله على أنها إنما منعت بالبذاء الذي كان فيها الواجب به عليها الخروج من منزلها، وصار ذلك بالخروج الذي لزمها بالعمل الذي كان منها نشوزا، فحرمت النفقة بذلك النشوز، كما نقول في المطلقة المستحقة للنفقة إذا نشزت بالخروج من منزل زوجها: لم يكن لها عليه نفقة ما كانت كذلك.

                                                فلم يكن أحد التأويلين اللذين ذكرناهما في حديث فاطمة أولى من الآخر به.

                                                ثم عدنا إلى النفقة على المطلقات الحوامل اللاتي لا رجعة عليهن لمن طلقهن فقال قائلون من أهل العلم: أمره -عز وجل- إلى أولات الأحمال بالإنفاق عليهن إذ كن كذلك؛ دليل على أنهن إذا لم يكن كذلك فلا نفقة لهن.

                                                فإن قيل: قول الطحاوي: فإنما ذلك تأويل في حديثها ولم نجده منصوصا؛ فيه نظر؛ لأن عبد الرزاق روى في "مصنفه " : عن معمر ، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: "أرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة بنت قيس يسألها، فأخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص المخزومي ... " فذكر الحديث، "وأنه طلقها ثلاث تطليقات إذ خرج إلى اليمن مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وأن عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام قالا: والله ما [ ص: 136 ] لها نفقة إلا أن تكون حاملا، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- فقال: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، واستأذنته في الانتقال فأذن لها".

                                                قلت: قال ابن حزم: هذه اللفظة: "إلا أن تكوني حاملا" لم تأت إلا من هذه الطريق، ولم يذكرها أحد ممن روى هذا الخبر عن فاطمة غير قبيصة، وعلة هذا الخبر أنه منقطع، لم يسمعه عبيد الله بن عبد الله لا من قبيصة ولا من مروان، فلا ندري ممن سمعه، ولا حجة في منقطع.

                                                قوله: "فهذا معنى قد يجوز" أشار به إلى ما ذكره من قوله: فكذلك فاطمة منعت من النفقة لنشوزها الذي خرجت به من منزل زوجها.

                                                قوله: "ما وصفت أنت" خطاب للشافعي، وحاصله أن هذا الحديث يحتمل معاني كثيرة، وتعيين الشافعي المعنى الذي أوله تحكم؛ لأنه ترجيح بلا مرجح.

                                                فإن قيل: حديث ابن عباس الذي ذكره هو الذي يرجح ما ذكره.

                                                قلت: منع الطحاوي ذلك بقوله: "وقد روي عن ابن عمر في الفاحشة المبينة غير ما قال" أي غير ما قال هذا المخالف وهو الشافعي -رحمه الله-، يعني إذا رجحت تأويلك بما رويته عن ابن عباس من تفسير الفاحشة المبينة، نعارضك بما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: "الفاحشة المبينة هي خروجها من بيتها".

                                                أخرجه بإسناد صحيح عن محمد بن خزيمة ، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري ، عن حماد بن سلمة ، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني، روى له الجماعة -عن نافع ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : نا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع، عن ابن عمر في قول الله تعالى: إلا أن يأتين [ ص: 137 ] بفاحشة مبينة قال: "خروجها من بيتها فاحشة".

                                                قوله: "فمن جعل لك ... " إلى آخره. إشارة إلى أن ترجيح الشافعي ما تأوله بما روي عن ابن عباس، وترك ما روي عن ابن عمر أيضا تحكم؛ لأن ترجيح أحد المتعارضين على الآخر بلا مرجح لا يسمع على أنه قد روي عن [غيرهما] أيضا في تفسير الفاحشة غير ما ذكراه، أشار إليه بقوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون وهم: الحسن البصري وزيد بن أسلم وحماد بن أبي سليمان؛ فإنهم قالوا: إن الفاحشة المبينة: أن تزني المعتدة فتخرج ليقام عليها الحد.

                                                وقتادة؛ فإنه قال: هي النشوز، فإذا فعلت حل إخراجها.

                                                والضحاك فإنه قال: هي عصيان الزوج.

                                                والطبري فإنه قال: هي كل معصية.




                                                الخدمات العلمية