الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5480 5481 ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى في الحديث الذي احتجوا به عليهم أن معمرا أخبر عن النبي -عليه السلام- أنه كان سمعه يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل، ثم قال معمر: : وكان طعامنا يومئذ الشعير" فيكون ذلك على الشعير بالشعير، فيجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بقوله -الذي حكاه عنه معمر- الطعام الذي كان طعامهم يومئذ، فيكون ذلك على الشعير بالشعير، فلا يكون في هذا الحديث شيء من ذكر بيع الحنطة بالشعير مما ذكر فيه عن النبي -عليه السلام- وإنما هو مذكور عن معمر ، من رأيه، ومن تأويله ما كان سمع من النبي -عليه السلام-، ألا ترى أنه قيل له: "فإنه ليس مثله" أي ليس من نوعه، فلم ينكر ذلك على من قاله، وكان من جوابه "أني أخشى أن يضارعه"، ) كأنه خاف أن يكون قول النبي -عليه السلام- الذي سمعه يقول -وهو ما ذكرنا في حديثه- على الأطعمة كلها فتوقى ذلك وتنزه عنه؛ للريب الذي وقع في قلبه منه، فلما انتفى أن يكون في هذا الحديث حجة لأحد الفريقين على صاحبه، نظرنا هل في غيره ما ينبئنا عن حكم ذلك، كيف هو؟ فاعتبرنا ذلك، فإذا علي بن شيبة قد حدثنا، قال: ثنا يزيد بن هارون ، قال: أنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار ، عن أبي الأشعث ، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: "أنه قام فقال: يا أيها الناس قد [ ص: 330 ] أحدثتم بيوعا لا أدري ما هي، وإن الذهب بالذهب وزنا بوزن تبره وعينه، والفضة بالفضة وزنا بوزن تبرها وعينها، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما، يدا بيد، ولا يصلح نساء، والبر بالبر مدا بمد يدا بيد، والشعير بالشعير مدا بمد يدا بيد، ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما يدا بيد، ولا يصلح نسيئة، ، والتمر بالتمر، حتى عد الملح مثلا بمثل، من زاد أو استزاد فقد أربى". .

                                                فهذا عبادة بن الصامت قد خالف معمر بن عبد الله فيما ذهب إليه، على ما ذكرنا عنه في الحديث الأول.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث معمر بن عبد الله، تقرير ذلك: أن حديث معمر لا يتم به الاستدلال ولا يصح؛ لأنه يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بقوله: "الطعام بالطعام مثلا بمثل"، الطعام الذي كان طعامهم يومئذ، فيكون المراد الشعير لأن طعامهم يومئذ كان الشعير، فيكون المعنى: الشعير بالشعير مثلا بمثل، فلا يكون حينئذ في الحديث تعرض إلى بيع الحنطة بالشعير من النبي -عليه السلام-، وإنما المذكور فيه من ذلك فمن معمر من رأيه وتأويله ما كان سمع من النبي -عليه السلام- فإذا كان كذلك لا يكون الاستدلال به على عدم جواز بيع الحنطة بالشعير متفاضلا غير صحيح، وقال ابن حزم: وأما حديث معمر فهو حجة عليهم لأنهم يسمون التمر طعاما ويبيحون فيه التفاضل بالبر، فقد خالفوا الحديث على تأويلهم بإقرارهم، ولا حجة لهم أصلا فيه؛ لأنه ليس فيه إلا الطعام بالطعام مثلا بمثل، وهذا ما لا نخالفهم فيه، ولا في جوازه، ليس فيه أن الطعام لا يجوز بالطعام إلا مثلا بمثل، هذا مسكوت عنه جملة في خبر معمر، ومنصوص على جوازه في خبر أبي هريرة وعبادة بن الصامت عن رسول الله -عليه السلام-، فبطل تعلقهم به جملة، وعاد حجة عليهم، وأما قول معمر من رأيه فلا [ ص: 331 ] حجة لهم فيه لأنه قد صرح بالشعير ليس مثلا للقمح لكن يخوف أن يضارعه، فتركه احتياطا لا إيجابا.

                                                ثم قال: والعجب من مالك إذ يجعل ها هنا وفي الزكاة البر الشعير والسلت صنفا واحدا ثم لا يجيز لمن يتقوت البر إخراج الشعير أو السلت في زكاة الفطر، وقوله: كل أحد يخرج مما يأكل، وهذا تناقض فاحش.

                                                وعجب آخر: وهو أنه يجمع بين الذهب والفضة في الزكاة ويرى إخراج أحدهما عن الآخر في الزكاة المفروضة، ويجيز ها هنا أن يباع الذهب بالفضة متفاضلين، وهذا تناقض لا خفاء به، وما علم أحد قط لا في شريعة ولا في لغة ولا في طبيعة: أن الشعير بر، ولا أن البر شعير، بل كل ذلك يشهد بأنهما صنفان مختلفان كاختلاف التمر والزبيب والتين، ولا يختلفون في أن من حلف أن لا يأكل برا فأكل شعيرا، أو أن لا يأكل شعيرا فأكل برا، ولا يشتري برا فاشترى شعيرا، أو لا يشتري شعيرا فاشترى برا، فإنه لا يحنث انتهى.

                                                ثم إذا لم يصح الاستدلال بحديث معمر للخصم ولا لنا فيما ذهبنا إليه وجب الرجوع إلى غيره من الأحاديث، هل نجد فيها ما يدل على ما ذهبنا إليه من جواز بيع الحنطة بالشعير ... فوجدنا حديث عبادة بن الصامت يدل صريحا على جواز بيع الحنطة بالشعير متفاضلا.

                                                وأخرجه بإسناد رجاله ثقات.

                                                وأبو الأشعث الصنعاني اسمه شراحيل بن آدة، روى له الجماعة، البخاري في غير صحيح.

                                                وأخرجه النسائي : عن محمد بن آدم ، عن عبدة ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ... إلى آخره نحوه.

                                                [ ص: 332 ] وأخرجه البيهقي أيضا في "سننه" نحوه ثم قال: قتادة لم يسمعه من مسلم بن يسار، قال: والصحيح: رواية همام ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن مسلم بن يسار أنه شهد خطبة عبادة بهذا.

                                                قلت: ذكر المزي في ترجمة مسلم بن يسار أن قتادة سمع منه فروى عنه، على أن هذا الذي ذكره البيهقي لا يضر؛ لأن حديث عبادة هذا وإن كان موقوفا، فقد روي مرفوعا متصلا أيضا كما يجيء الآن، إن شاء الله.

                                                قوله: "إن قام" أي قام خطيبا.

                                                قوله: "إن الذهب بالذهب" الباء فيه للمقابلة، وتسمى باء العرض أيضا، وهي الداخلة على الأعراض، كما تقول: اشتريت هذا بألف، حتى إذا قال لغيره: بعت مثل هذا العبد بكر من حنطة يكون الكر ثمنا، حتى يجوز الاستبدال به قبل القبض، ولو قال بعت مثل كذا من حنطة جيدة بهذا العبد تكون الحنطة سلما حتى لا يجوز إلا مؤجلا، ولا يجوز الاستبدال به قبل القبض.

                                                قوله: "وزنا بوزن" نصب على الحال، والمعنى أن الذهب يباع بالذهب، حال كونهما موزونين متساويين.

                                                قوله: "تبره" مبتدأ، و"عينه" عطف عليه، والخبر محذوف، أي تبر الذهب، وهي القطعة المأخوذة من المعدن، وعين الذهب وهو المصوغ منه وغيره سواء في الحكم، وكذلك الكلام في قوله: "والفضة بالفضة وزنا بوزن تبرها وعينها".

                                                قوله: "ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما" أي والحال أن الفضة أكثر من الذهب.

                                                قوله: "يدا بيد" نصب على الحال.

                                                فإن قيل: من شرط الحال أن يكون من المشتقات.

                                                [ ص: 333 ] قلت: نعم، ولكن قد يجيء من غير المشتقات، ويجعل بالتأويل في حكم المشتق، والمعنى ها هنا: لا بأس ببيع الذهب بالفضة وإن كانت الفضة أكثر من الذهب، حال كونهما متناجزين، فافهم.

                                                قوله: "ولا يصلح نساء" بفتح النون والمد، أي بالتأخير، قال الجوهري: تقول: نسأته البيع وأنسأته، وبعته بنسأة وبعته بكلاءة أي بأخرة، وكذلك بعته بنسيئة، وقال الأخفش: أنسأته الدين إذا جعلته له مؤخرا، كأنك جعلته له مؤخرا، ونسأت عنه دينه إذا أخرته، نساء بالمد، قال: وكذلك النساء في العمر ممدود، وانتصاب نساء على الحال أيضا، أي لا يصلح بيع الذهب بالفضة المتفاضلة حال كون البيع متأخرا.

                                                قوله: "والبر بالبر" مثل قوله: "الذهب بالذهب" يعني يباع البر بالبر أو يجوز بيع البر بالبر ولكن متساويين، بين هذا القيد بقوله: "مدا بمد" وتخصيص المد بالذكر، ليس لأجل التعيين في جواز العقد، وإنما هو تمثيل للمساواة المشروطة في بيع البر بالبر، ونحو ذلك في سائر الحبوب وغيرها التي تقابل عينها، ألا ترى إلى ما جاء في رواية البيهقي مديا بمدي، والمدي -بضم الميم، وسكون الدال، وفي آخره ياء آخر الحروف-: هو مكيال لأهل الشام، يسع خمسة عشر مكوكا، والمكوك صاع ونصف، وقيل: أكثر من ذلك.

                                                قوله: "والشعير أكثرهما" جملة اسمية حالية، وهذه نظير قوله: "والفضة أكثرهما".

                                                قوله: "أو استزاد" أي أو طلب الزيادة.

                                                قوله: "فقد أربى" أي فعل الربا المنهي عنه.




                                                الخدمات العلمية