الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4672 ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ، عن ابن شهاب الزهري ، عن عروة ، عن عائشة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". .

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح.

                                                وأخرجه عبد الله بن وهب وأبو جعفر العقيلي والقعنبي عن مالك في غير "الموطأ" هكذا مختصرا، ورواه غيرهم عن مالك بأتم منه مثل ما أخرجه في "الموطأ" : عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة، أنها قالت: [ ص: 313 ] "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص، وقال: ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة وقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي قد كان عهد إلي فيه. وقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال النبي -عليه السلام-: هو لك يا عبد بن زمعة. ثم قال رسول الله -عليه السلام-: الولد للفراش، وللعاهر الحجر. ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه. لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله".

                                                وأخرجه البخاري : من طريق مالك نحوه، وكذلك بقية الجماعة غير الترمذي .

                                                وعتبة بن أبي وقاص هو أخو سعد بن أبي وقاص لأبيه، شهد أحدا مع المشركين، ويقال: هو الذي رمى رسول الله -عليه السلام- وكسر رباعيته ودمى وجهه، ومات بعد ذلك كافرا.

                                                وأصل القضية: أنهم كانت لهم في الجاهلية إماء يبغين، وكانت السادة يأتيهن في خلال ذلك، فإذا أتت إحداهن بولد فربما يدعيه السيد وربما يدعيه الزاني، فإن مات السيد ولم يكن ادعاه ولا أنكره، فادعاه ورثته لحق به، إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه قبل القسمة، وإن كان السيد أنكره لم يلحق به بحال، وكان لزمعة بن قيس والد سودة زوج النبي -عليه السلام- أمة على ما وصف من أن عليها خريبة وهو يلم بها، فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة أخي سعد بن أبي وقاص وهلك كافرا، فعهد إلى أخيه سعد قبل موته، فقال: استلحق الحمل [ ص: 314 ] الذي بأمة زمعة، فلما استلحقه سعد خاصمه عبد بن زمعة، فقال سعد: هو ابن أخي، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقال عبد بن زمعة: بل هو أخي، ولد على فراش أبي، يشير إلى ما استقر عليه الحكم في الإسلام، فقضى رسول الله -عليه السلام- لعبد بن زمعة؛ إبطالا لحكم الجاهلية.

                                                قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" قال الطحاوي: معناه هو لك بيدك عليه لا أنك تملكه، ولكن يمنع بيدك عليه كل من سواك منه كما قال في اللقطة: هي لك بيدك عليها، يدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها ليس على أنه ملك له، ولا يجوز أن يجعله رسول الله -عليه السلام- ابنا لزمعة ثم يأمر أخته تحتجب عنه هذا محال لا يجوز أن يضاف إلى النبي -عليه السلام-.

                                                وقال الطبري: هو لك يا عبد بن زمعة معناه: هو لك عبد؛ لأنه ابن وليدة أبيك، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد، يريد أنه لما لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها ولا شهد بذلك عليه، كانت الأصول تدفع قول ابنه عليه، لم يبق إلا القضاء بأنه عبد تبع لأمه، وأمر سودة بالاحتجاب منه؛ لأنها لم تملك منه إلا شقصا، وقال أبو عمر: هذا تحكم من الطبري، وهو خلاف ظاهر الحديث.

                                                قوله: "احتجبي عنه يا سودة" أشكل معناه قديما على العلماء، فذهب أكثر القائلين بأن الحرام لا يحرم الحلال وأن الزنا لا تأثير له في التحريم، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، أي أن قوله كان ذلك منه على وجه الاحتياط والتنزه، وأن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، هذا قول الشافعي، وقالت طائفة: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر، فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر وهو الولد للفراش، وحكم باطن وهو الاحتجاب من أجل الشبه، وكأنه قال: ليس بأخ لك يا سودة إلا في حكم الله، فأمرها بالاحتجاب منه.

                                                [ ص: 315 ] قلت: ومن هذا أخذ أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد: أن وطء الزنا أنه محرم وموجب للحكم وأنه يجري مجرى الوطء الحلال في التحريم منه، وحملوا أمره -عليه السلام- لسودة بالاحتجاب على الوجوب، وهو أحد قولي مالك، وفي قوله الآخر: الأمر ها هنا للاستحباب، وهو قول الشافعي وأبي ثور؛ وذلك لأنهم يقولون: إن وطء الزنا لا يحرم شيئا، ولا يوجب حكما، والحديث حجة عليهم.

                                                قوله: "الولد للفراش" أي لصاحب الفراش، وأجمعت جماعة من العلماء بأن الحرة فراش بالعقد عليها، مع إمكان الوطء وإمكان الحمل، فإذا كان عقد النكاح يمكن معه الوطء والحمل، فالولد لصاحب الفراش لا ينتفي عنه أبدا بدعوى غيره، ولا بوجه من الوجوه إلا باللعان.

                                                واختلف الفقهاء في المرأة يطلقها زوجها في حين العقد عليها بحضرة الحاكم أو الشهود، فتأتي بولد لستة أشهر فصاعدا من ذلك الوقت عقيب العقد، فقال مالك والشافعي: لا يلحق به؛ لأنها ليست بفراش له، إذ لم يمكنه الوطء في العصمة، وهو كالصغير أو الصغيرة اللذين لا يمكن منهما الولد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هي فراش له، ويلحق به ولدها.

                                                واختلفوا في الأمة، فقال مالك: إذا أقر بوطئها صارت فراشا، وإن لم يدع استبراء لحق به ولدها وإن ادعى استبراء من ولدها، وقال العراقيون: لا تكون الأمة فراشا بالوطء إلا بأن يدعي سيدها ولدها، وأما إن نفاه فلا يلحق به، سواء أقر بوطئها أو لم يقر وسواء استبرأ أو لم يستبرئ.

                                                قوله: "وللعاهر الحجر" العاهر الزاني، فقيل: معناه أن الحجر يرجم به الزاني المحصن، وقيل: معناه أن الزاني له الخيبة ولا حظ له في الولد؛ لأن العرب تجعل هذا مثلا في الخيبة، كما يقال: له التراب إذا أراد له الخيبة.

                                                [ ص: 316 ] والعهر: الزنا ومنه الحديث: "اللهم أبدله بالعهر العفة" وقد عهر الرجل إلى المرأة يعهر إذا أتاها للفجور، وقد عيهرت هي وتعيهرت إذا زنت.

                                                وقال أبو عمر: قد قيل: معناه أن الزاني لا شيء له في الولد ادعاه أو لم يدعه، فإنه لصاحب الفراش دونه لا ينتفي عنه أبدا إلا بلعان، وقوله: "وللعاهر الحجر" كقولهم: بفيك الحجر: أي لا شيء لك، قالوا: ولم يقصد بقوله: "وللعاهر الحجر" الرجم، وإنما قصد به إلى نفي الولد، واللفظ يحتمل التأويلين جميعا.

                                                وقال ابن الأثير، في "النهاية": العاهر: الزاني، وقد عهر يعهر عهرا وعهورا إذا أتى المرأة ليلا للفجور بها ثم غلب على الزنا مطلقا، والمعنى لا حظ للزاني في الولد، وإنما هو لصاحب الفراش أي لصاحب أم الولد وهو زوجها أو مولاها، وهو كقول الآخر: له التراب، أي لا شيء له، وقال أيضا، وللعاهر الحجر: أي الخيبة، يعني أن الولد لصاحب الفراش من الزوج أو السيد، وللزاني الخيبة والحرمان، كقولك: ما لك عندي شيء غير التراب، وما بيدك غير الحجر، وذهب بعضهم إلى أنه كنى بالحجر عن الرجم، وليس كذلك؛ لأنه ليس كل زان يرجم.




                                                الخدمات العلمية