الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5577 5578 5579 5580 5581 5582 5583 5584 ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: هذه الآثار كلها عندنا ثابتة صحيح مجيئها، فنحن آخذون بها غير تاركين لها، ولكن تأويلها عندنا غير ما تأولها عليه أهل المقالة الأولى، واحتمل أن يكون أراد به بيع الثمار قبل أن تكون، فيكون بائعها بائعا لما ليس عنده، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في نهيه عن بيع السنين.

                                                حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عيينة ، عن حميد الأعرج ، عن سليمان بن عتيق ، عن جابر بن عبد الله: ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنين". .

                                                قال يونس: : قال لنا سفيان: " : هو بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها".

                                                حدثنا ربيع الجيزي ، وابن أبي داود، قالا: ثنا سعيد بن كثير بن عفير ، قال: ثنا كهمس بن المنهال ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب: قال نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع السنين".

                                                حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا ابن عفير ، قال: ثنا يحيى بن أيوب ، عن ابن جريح، عن عطاء وأبي الزبير ، عن جابر: ، أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الثمر حتى يطعم".

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم ، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله ، قال: ثنا أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مثله.

                                                [ ص: 473 ] حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وأبو الوليد ، قالا: ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري قال: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن بيع النخل، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع النخل حتى يأكل منه، أو حتى يؤكل منه".

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة ، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا البختري الطائي يقول: سألت ابن عباس عن السلم، فقلت: إنا ندع أشياء لا نجد لها في كتاب الله -عز وجل- تحريما، فقال: إنا نفعل ذلك؛ نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع النخل حتى يؤكل منه".

                                                حدثنا روح بن الفرج ، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال: ثنا الفضل بن فضالة ، عن خالد: أنه سمع عطاء بن أبي رباح عن الرجل يبيع ثمرة أرضه رطبا كان أو عنبا، يسلف فيها قبل أن تطيب، فقال: لا يصلح؛ إن ابن الزبير -رضي الله عنهما- باع ثمرة أرض له ثلاث سنين، فسمع بذلك جابر بن عبد الله الأنصاري، فخرج إلى المسجد فقال في أناس: منعنا رسول الله -عليه السلام- أن نبيع الثمرة حتى تطيب".

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب ، قال: ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري، قال: سألت ابن عمر -رضي الله عنهما- عن السلف في الثمر، ، فقال: نهى عمر - رضي الله عنه- عن بيع الثمر ، حتى يصلح".

                                                فدلت هذه الآثار التي ذكرناها على الثمار المنهي عن بيعها قبل بدو صلاحها ما هي، وأنها المبيعة قبل كونها المسلف عليها، فنهى عن ذلك رسول الله -عليه السلام- حتى تكون، وحتى يؤمن عليها العاهة، فحينئذ يجوز السلم فيها، أولا ترى أن ابن عمر -رضي الله عنهما- لما سأله أبو البختري عن السلم في النخل كان جوابه له في ذلك ما ذكر في حديثه من النهي عن بيع الثمار حتى . تطعم، . فدل ذلك على أن النهي إنما وقع في الآثار التي قدمنا ذكرها في هذا الباب على بيع الثمار قبل أن تكون ثمارا، ألا ترى إلى قول النبي -عليه السلام-: "أرأيت إن منع الله الثمرة. ، بما يأخذ أحدكم مال أخيه؟ ".

                                                [ ص: 474 ] فلا يكون ذلك إلا على البيع من ثمرة لم يكن أن تكون، وإنما الذي في هذه الآثار هو النهي عن السلم في الثمار في غير حينها، وهذه الآثار تدل على النهي عن ذلك، فأما بيع . الثمار في أشجارها بعدما ظهرت، فإن ذلك عندنا جائز صحيح.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا ومالكا في رواية وأحمد في قول، فإنهم قالوا: بيع الثمار على الأشجار بعد ظهورها جائز، وحججهم في ذلك إن شاء الله تعالى:

                                                قوله: "فقالوا هذه الآثار ... " إلى آخره جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الآثار المذكورة، بيان ذلك أن الأحاديث المذكورة عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- أحاديث صحيحة لا نزاع في صحتها ولا يتمكن أحد من ردها، ونحن آخذون بها غير تاركين لها، وإنما تأويلها عندنا على غير الوجه الذي ذكره أهل المقالة الأولى، وهو أن المراد به بيع الثمار قبل كونها، وقبل أن تخلق، وذلك لأنه حينئذ يكون بائعا لما ليس عنده، وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك وهو نهيه عن بيع سنين، وإنما نهى عن ذلك لأنه من المعلوم أن ثمرة السنة، والثانية والثالثة لم تخلق، فهي لو خلقت ولم يبد صلاحها لم يجز العقد عليها، فإذا لم تخلق فأولى أن لا يجوز، ووردت آثار أخرى دلت على الثمار المنهي [عن] بيعها قبل بدو صلاحها ما هي، وأنها هي التي تباع قبل كونها ويسلف عليها، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك حتى تكون وتخلق ويؤمن عليها العاهة، فحينئذ يجوز السلف -وهو السلم- فيها، ومن الدليل على صحة ما أولنا من التأويل المذكور: قوله -عليه السلام- في حديث أنس -رضي الله عنه-، الذي هو من جملة حجج أهل المقالة الأولى: "أرأيت إن منع الله الثمر، بما يستحل أحدكم مال أخيه" فهذا يدل صريحا على أن البيع كان قبل كون الثمار، وقبل أن تخلق، فإذا كان الأمر كذلك لم [ ص: 475 ] يبق في الأحاديث المذكورة طريق إلى صحة استدلال أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وأما استدلالنا نحن فيما ذهبنا إليه من جواز بيع الثمار على الأشجار بعد ما ظهرت، فبأحاديث وأخبار يأتي ذكرها عن قريب، إن شاء الله تعالى.

                                                ثم إنه أخرج حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- من أربع طرق صحاح:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن سفيان بن عيينة ، عن حميد بن قيس الأعرج المكي أبي صفوان القارئ الأسدي ، عن سليمان بن عتيق الحجازي المكي -ويقال: ابن عتيك وهو وهم- عن جابر بن عبد الله .

                                                وهذا على شرط مسلم .

                                                وأخرجه مسلم : نا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، قالوا: نا سفيان بن عيينة ، عن حميد الأعرج ، عن سليمان بن عتيق ، عن جابر قال: "نهى النبي -عليه السلام- عن بيع السنين" وفي رواية ابن أبي شيبة: "عن بيع الثمر سنين".

                                                وأخرجه أبو داود : أيضا بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، كلاهما عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره، وفي آخره: "ووضع الجوائح".

                                                وأخرجه النسائي : أنا قتيبة بن سعيد، نا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن سليمان بن عتيك -قال قتيبة: عتيك بالكاف، والصواب عتيق- عن جابر ، عن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الثمر سنين.

                                                قلت: معناه أن يبيع الرجل ثمرة حائطه سنين، وهو الذي يسمى أيضا بيع المعاومة، وفيه دلالة على أن بيع الإنسان ما ليس عنده باطل.

                                                [ ص: 476 ] الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج وإبراهيم بن أبي داود البرلسي كلاهما عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري أبي عثمان المصري من رجال مسلم ، عن كهمس بن المنهال السدوسي أبي عثمان البصري اللؤلؤي، قال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه، أدخله البخاري في كتابه "الضعفاء" يحول منه. وذكره ابن حبان في "الثقات" قال: وكان يقول بالقدر. روى له البخاري حديثا واحدا مقرونا بغيره.

                                                وهو يروي عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه-، قال أبو بكر البزار: يقال: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديثا واحدا، وهو ما حدثناه إسحاق بن إبراهيم بن حبيب ، عن قريش بن أنس ، عن حبيب بن الشهيد، قال: قال لي محمد بن سيرين: "سل الحسن ممن سمع الحديث في العقيقة، فسألته فقال: من سمرة -رضي الله عنه-" وقال الترمذي: قلت للبخاري في قولهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة، قال سمع منه أحاديث كثيرة، وجعل روايته عنه سماعا وصححها.

                                                وأخرج حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير بن حازم ، وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري ، كلاهما عن شعبة ، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الجملي الكوفي الأعمى أحد مشايخ أبي حنيفة ، عن أبي البختري -بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح التاء المثناة من فوق وكسر الراء- واسمه سعيد بن فيروز الطائي الكوفي روى له الجماعة.

                                                عن عبد الله بن عباس .

                                                وأخرجه مسلم : نا محمد بن مثنى ، وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري، قال: "سألت ابن عباس [ ص: 477 ] عن بيع النخل، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع النخل حتى يأكل منه -أو يؤكل- وحتى يوزن، فقلت: ما يوزن، فقال رجل عنده: حتى يحرز".

                                                الثاني: عن محمد بن خزيمة ، عن عبد الله بن رجاء الغذاني ، عن شعبة ... إلى آخره.

                                                قوله: "حتى يأكل منه" على صيغة المعلوم أي حتى يأكل البائع منه.

                                                قوله: "أو حتى يؤكل منه" شك من الراوي.

                                                وأخرج حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير ، عن شعبة ... إلى آخره.

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق .




                                                الخدمات العلمية