الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 403 ] 215 - باب بيان مشكل ما اختلف فيه عن عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الأنفال و"براءة" ، وهل هما سورتان ؟ أو سورة واحدة ؟

1374 - حدثنا يزيد بن سنان قال : حدثنا عبد الله بن حمران قال : حدثنا عوف ، عن يزيد الفارسي ، عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى "الأنفال" وهي من المثاني وإلى "براءة" وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطرا بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؟ فما حملكم على ذلك ؟ قال : فقال عثمان : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دخل بعض من يكتب له فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وإذا نزلت عليه الآيات قال : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا . وإذا نزلت عليه الآية قال : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا . وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن - قال أبو جعفر : يعني : نزولا - وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها . وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يبين لنا أنها منها . من أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطرا بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتهما في السبع الطوال . [ ص: 404 ] قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث ظن عثمان رضي الله عنه أنهما سورة واحدة ، وتحقيق ابن عباس أنهما سورتان .

وإذا كان تحزيب القرآن على ما في حديث أوس بن حذيفة الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا الباب وجب أن تكونا سورتين كما قال ابن عباس ، وتباينهما في الوقتين اللذين كان نزولهما فيهما يدل أنهما سورتان لا سورة واحدة ، وذلك أن الأنفال نزلت في بدر .

كما حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي قال : حدثنا هارون بن عبد الله الحمال قال : حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قلت : سورة الأنفال ؟ قال : نزلت في بدر . قلت : فالحشر ؟ قال : نزلت في بني النضير .

قال أبو جعفر : وبدر إنما كانت في سنة أربع ، و"براءة" فآخر سورة نزلت .

[ ص: 405 ] كما حدثنا فهد قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو إسحاق قال : سمعت البراء يقول : آخر آية نزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة . وآخر سورة نزلت براءة .

قال أبو جعفر : ففي ذلك تحقيق البراء أن "براءة" سورة كاملة بائنة من الأنفال . وهذا مما يعلم أنه رضي الله عنه لم يقل ذلك رأيا ؛ إذ كان مثله لا يقال بالرأي ، وأنه إنما قاله توقيفا ؛ لأن مثله لا يؤخذ إلا بالتوقيف .

وقد روي عن عبد الله بن عباس ما يدخل في هذا المعنى الذي جرى فيه الاختلاف الذي ذكرنا بينه وبين عثمان رضي الله عنهما .

1375 - ما قد حدثنا محمد بن سنان الشيزري قال : حدثنا عيسى بن [ ص: 406 ] سليمان قال : حدثنا مبشر بن عبد الله ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان جبريل إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببسم الله الرحمن الرحيم علم أن السورة قد انقضت .

[ ص: 407 ]

1376 - وما قد حدثنا يونس قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن سعيد بن جبير بغير ذكر منه إياه ، عن ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم .

قال أبو جعفر : فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه من الله عز وجل ما يعلم به آخر السورة ، وفي ذلك ما قد دل على أن الحقيقة فيما اختلف عثمان وهو رضي الله عنهما فيه مما ذكرنا اختلافهما فيه - كانت الحقيقة فيه ما قاله هو فيه ؛ لما قد وقف على ذلك مما قد رويناه عنه مما لم يوقف عليه عثمان .

وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا ما يدل على ذلك .

1377 - وهو ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا [ ص: 408 ] أسد بن موسى قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن حبيب بن هند الأسلمي ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من أخذ السبع فهو حبر ، يعني بذلك : السبع الطوال من القرآن .

1378 - حدثنا يوسف بن يزيد قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو ، عن حبيب بن هند الأسلمي ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أخذ السبع فهو حبر .

أفلا ترى أنا قد أحطنا علما أن براءة قد دخلت في ذلك دون الأنفال أو دخل الأنفال في ذلك دون براءة ؟ وفي ذلك ما قد دل أنهما سورتان لا سورة واحدة .

[ ص: 409 ] وقد روي عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يدخل في هذا المعنى أيضا .

1379 - ما قد حدثنا يزيد بن سنان قال : حدثنا أبو داود الطيالسي قال : حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن أبي المليح الهذلي ، عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أعطيت مكان التوراة السبع ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضلت بالمفصل .

[ ص: 410 ] قال أبو جعفر : أفلا ترى أن الأنفال من المثاني ، وأن براءة من المئين ، وأن في ذلك ما قد دل أن كل واحدة منهما غير صاحبتها ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطي كل واحدة منهما مكان ما أعطي الأخرى مكانه فيما ذكر في هذا الحديث .

وفي ذلك ما قد دل على أنهما سورتان لا سورة واحدة . وفي التحزيب الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا الباب ما قد حقق ذلك أيضا ، فإن يكن التحزيب كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الحجة التي لا يجوز خلافها ، وإن يكن كان من أصحابه رضوان الله عليهم فهم المقتدون به المتبعون لآثاره ، الذين لا يخرجون عن ما كان عليه . فعلم أن ذلك ما كان في التحزيب ، فقد ثبت به أن براءة والأنفال سورتان لا سورة واحدة .

وقد ذهب آخرون إلى أن تركهم كان اكتتاب بسم الله الرحمن الرحيم بين الأنفال وبراءة لغير المعنى الذي في حديث يزيد الفارسي ، عن ابن عباس ، عن عثمان . وأنفوا أن يكون مثل هذا يذهب عن عثمان رضي الله عنه ؛ لعنايته كان بالقرآن قديما وحديثا إلى أن توفاه الله رضي الله عنه .

على ذلك ويذكرون أن بسم الله الرحمن الرحيم إنما كان تركهم لكتابتها بين الأنفال وبين براءة ؛ لأن بسم الله الرحمن الرحيم حروف رحمة ، وسورة براءة ليست من هذا المعنى الذي من جنس ما يراد به الرحمة ، وإنما هي نقض عهود ونذارات ووعيدات وتخويفات ، وإبانة نفاق ممن نافق الله ورسوله فاستحق به ما استحق من العذاب والتخليد في النار ، فلم يروا مع ذلك أن يكتبوا في أولها سطرا بسم الله الرحمن الرحيم ؛ إذ كان ما بعده أكثره لا رحمة فيه ، وإنما هو أضداد لها ، وهذا مذهب من يتكلم في هذه المعاني على غير جهة الآثار ، والله أعلم بحقيقة الأمر كان في ذلك . وإياه أسأل التوفيق .

[ ص: 411 ] وقد دخل على أهل هذه المقالة في مقالتهم هذه أن في كتاب الله عز وجل سورتين من سور العذاب قد كتب في كل واحدة منهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم : ويل لكل همزة لمزة ، تبت يدا أبي لهب - فكان في ذلك ما قد دل أن سورة العذاب قد يكتب قبلها بسم الله الرحمن الرحيم كما يكتب قبل سورة الرحمة .

وكان آخرون يقولون : إنما ترك اكتتاب بسم الله الرحمن الرحيم قبل سورة براءة إعظاما لبسم الله الرحمن الرحيم من خطاب المشركين بها ففسد هذا القول أيضا بما في كتاب الله عز وجل وبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يدفعه .

فأما ما في كتاب الله عز وجل مما يدفعه فكتاب سليمان إلى صاحبة سبأ الكتاب الذي أعلمت صاحبة سبأ قومها أنه من سليمان ، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم وهي وهم مشركون قد دل على ذلك قول الهدهد لسليمان : وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون .

وأما ما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

1380 - فما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال : حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري قال : حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : حدثني أبو سفيان من فيه إلى أن هرقل دعا لهم بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، السلام على [ ص: 412 ] من اتبع الهدى ... ثم ذكر بقية الحديث . وفيما ذكرنا إباحة ابتداء خطاب المشركين ببسم الله الرحمن الرحيم . ولما انتفى هذان القولان الآخران ، ولم يكن في هذا الباب سواهما ، وسوى القول الأول - ثبت القول الأول . والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية