الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 198 ] 630 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمك الطافي من المنع من أكله وما روي عنه مما استدل به قوم على إباحة ذلك .

4026 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله ، عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله .

عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما حسر عنه البحر فكل وما ألقى فكل ، وما وجدته ميتا طافيا فوق الماء فلا تأكل .

[ ص: 199 ]

4027 - وقد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا علي بن عياش الحمصي ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، ثم ذكر بإسناده مثله .

4028 - حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا أحمد بن عبدة ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، قال : حدثنا إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما طفا فلا تأكلوه .

[ ص: 200 ] فذهب قوم إلى كراهة أكل ما طفا من السمك ومنعوا من ذلك وجعلوا حكمه كحكم اللحم الذي أنتن ، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك من أكله على ما قد ذكرنا في حديث أبي ثعلبة الذي رويناه في الباب الذي قبل هذا الباب ، ورووا في ذلك أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ما يوافق هذا المعنى .

ما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن ميسرة .

أن عليا رضي الله عنه قال : ما قذف البحر حلال ، وكان يكره الطافي من السمك .

وما قد حدثنا أحمد بن الحسن الكوفي ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن زاذان وميسرة أو أحدهما .

عن علي أنه كره الطافي من السمك .

وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد [ ص: 201 ] الوارث ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن ميسرة .

عن علي عليه السلام قال : كل ما قذف البحر ، وما طفا فلا تأكل .

قالوا : وما يطفو من السمك فإنما يطفو لفساده وفي ذلك نتن لحمه ، وممن ذهب إلى هذا القول أبو حنيفة وأصحابه .

وقد أباح ذلك قوم وهم مالك والشافعي واحتجوا في ذلك بما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

4029 - مما قد حدثناه يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب أن مالكا أخبره ، عن صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق ، عن المغيرة بن أبي بردة .

عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحلال ميتته .

[ ص: 202 ]

4030 - وما قد حدثنا نصار بن حرب المسمعي البصري ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا مالك ، عن صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة الزرقي ، عن المغيرة بن أبي بردة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

فتأملنا هذا الحديث في إسناده فوجدنا يحيى بن سعيد الأنصاري قد رواه ، عن المغيرة بن عبد الله .

4031 - كما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن المغيرة بن عبد الله .

عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هو الطهور ماؤه الحلال ميتته .

[ ص: 203 ]

4032 - وكما حدثنا المطلب بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث بن سعد ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن المغيرة .

أن رجلا من بني مدلج قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا إنا نصيد على أرماث فنخرج بالماء اليسير فنتوضأ بماء البحر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته .

وكان المغيرة بن عبد الله المذكور في حديث حماد ، عن يحيى - هو المغيرة بن أبي بردة ، وكان يحيى قد رده إلى أبيه وكان سعيد بن سلمة قد رده إلى أبي هريرة ، فرده يحيى إلى الانقطاع ، وإلى رجل مجهول لا يعرف ، ورده سعيد إلى أبي هريرة ، وكان سعيد ويحيى لما اختلفا كان يحيى بالصواب أولى لحفظه وثبته ولتقصير سعيد بن [ ص: 204 ] سلمة عن ذلك وتخلفه عنه .

وقد وجدنا هذا الحديث أيضا من حديث عبد ربه بن سعيد الأنصاري بخلاف ما رواه سعيد بن سلمة عليه .

4033 - كما حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حجاج بن رشدين ، قال : حدثنا عبد الجبار بن عمر ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن المغيرة بن أبي بردة .

عن عبد الله المدلجي قال كنا في أرماث في البحر فنحمل معنا القليل من الماء فإذا توضأنا به عطشنا وإذا توضأنا بماء البحر كفانا ، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته .

[ ص: 205 ] ووجدنا جلاحا أبا كثير قد روى هذا الحديث ، عن سعيد بن سلمة فنسب سعيدا هذا إلى مخزوم وخالف صفوان فيه ; لأن صفوان نسبه إلى آل الأزرق وليسوا من مخزوم .

4034 - كما حدثنا الربيع المرادي ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، قال : حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي كثير جلاح أن سعيد بن سلمة المخرومي أخبره أن المغيرة بن أبي بردة أخبره .

أنه سمع أبا هريرة يقول : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فجاءه صياد فقال : يا رسول الله إنا ننطلق في البحر نريد الصيد فيحمل أحدنا معه الإداوة أو الاثنتين وهو يرجو أن يجد الصيد قريبا فربما وجده كذلك وربما لم يجد الصيد حتى يبلغ من البحر مكانا لم يظن أن يبلغه ولعله يحتلم أو يتوضأ فإن اغتسل أو توضأ به في كل صلاة نفد الماء ، فلعل أحدنا أن يهلكه العطش فما ترى يا رسول الله في ماء البحر ؟ أنغتسل به أو نتوضأ به إذا خفنا ذلك ؟ فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم فاغتسلوا منه وتوضؤوا ; فإنه الطهور ماؤه الحل ميتته .

[ ص: 206 ] وكان هذا الحديث مما قد اضطرب علينا إسناده الاضطراب الذي لا يصلح معه الاحتجاج بمثله ، واحتملنا عبد الجبار بن عمر فيما روينا عنه مما رويناه عنه فيه وإن كان قد لحقه في روايته ما لحقه ; لأن أهل الحديث إنما ينكرون من روايته ما رواه منها عن الزهري وابن المنكدر ، ولا ينكرون ما رواه عن سواهما ويحمدونه في ذلك والذي رويناه من حديثه فإنما هو عن سواهما وهو عبد ربه بن سعيد الأنصاري .

فإن قال قائل : فقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه بهذا المعنى .

4035 - فذكر ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن حميد بن صخر ، عن عياش بن عباس المصري ، عن عبد الله بن رزين .

[ ص: 207 ] عن العركي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب في الأرماث فنبعد في البحر ومعنا ماء لشفاهنا ، فإن توضأنا به عطشنا ويزعمون أن ماء البحر ليس بطهور ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماؤه طهور وميتته حلال .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن إسناد هذا الحديث حسن كما ذكر غير أن عبد الله بن رزين قديم لا يقع في القلوب لقاء عياش بن عباس إياه ، وقال : في هذا الباب أيضا آثار في هذا المعنى منها .

4036 - ما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن الجلاح ، عن عبد الله بن سعيد المخزومي ، عن المغيرة بن أبي بردة .

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى رجل من بني مدلج النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثل حديث الربيع ، عن شعيب ، عن الليث ، عن يزيد ، عن أبي كثير جلاح ، غير أنه خالفه في اسم الرجل الذي حدث بهذا الحديث عنه ، فقال الربيع في حديثه : سعيد بن سلمة ، وقال أبو أمية [ ص: 208 ] في حديثه : عبد الله بن سعيد ، وهذا اضطراب شديد وقد روي أيضا من جهة أخرى .

4037 - كما حدثنا علي بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : حدثنا الليث .

4038 - وكما حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبي ، عن الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن بكر بن سوادة ، عن مسلم بن مخشي أنه حدثه .

أن الفراسي قال : كنت أصيد في البحر الأخضر على أرماث ، ثم ذكر هذا الحديث .

[ ص: 209 ]

4039 - وكما حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا جدي ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثني جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث ، عن بكر بن سوادة ، عن أبي معاوية العلوي ، عن مسلم بن [ ص: 210 ] مخشي المدلجي .

عن الفراسي أنه قال : يا رسول الله ، ثم ذكر هذا الحديث .

وكان هذا الحديث مما لا يصلح لنا الاحتجاج به ; لأن من رواته بعض من لا يعرف وهو أبو معاوية العلوي ومسلم بن مخشي ، وكنا لو صححنا هذا الحديث لم يكن فيه ما يخالف حديث جابر الذي رويناه في أول هذا الباب ; لأن الذي في هذا الحديث إنما هو : وميتته حلال ، فقد يجوز أن يكون ميتته هي الميتة التي أباحها حديث جابر بن عبد الله ، فيكون الحديثان جميعا صحيحين مستقيمين ، ويكون ما في حديث جابر على تحريم الطافي ، وما في الحديث الآخر على الميتة سوى الطافي ، وهذا أولى ما حمل عليه هذان الحديثان حتى لا يضاد واحد منهما الآخر ، وحتى يكون وجه كل واحد منهما غير وجه الآخر .

فإن قال قائل : فقد روي في إباحة السمك الطافي .

فذكر ما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سفيان الثوري ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عكرمة .

عن ابن عباس قال : أشهد على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : إن السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها .

[ ص: 211 ] وما قد حدثنا سليمان بن شعيب ، قال : حدثنا خالد بن عبد الرحمن الخراساني ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عكرمة .

عن ابن عباس ، عن أبي بكر مثله .

وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت أبا عبد الرحمن يقول : سمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول : ليس في البحر شيء إلا قد ذبحه الله عز وجل لكم .

[ ص: 212 ] وما قد حدثنا محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثني قتادة ، عن أبي مجلز وعن عكرمة .

عن ابن عباس أن أبا بكر رضي الله عنه قال : السمك ذكي كله .

وما قد حدثنا محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثني حبيب بن الشهيد ، عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة وجدوا سمكة طافية فسألوا أبا طلحة عنها فقال : اهدوها إلي .

قال : ففي هذا ما قد دل على إباحة الطافي من السمك .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن في هذا الحديث قول أبي بكر وأبي طلحة ما قد دل على ما ذكر ، وقد خالفهما فيه علي بن أبي طالب عليه السلام ووافقه على خلافهما فيه جابر بن عبد الله .

كما قد حدثنا سليمان بن شعيب ، قال : حدثنا خالد بن عبد [ ص: 213 ] الرحمن الخراساني ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن أبي الزبير .

عن جابر قال : ما كان طافيا فلا تأكلوا ، وما كان في حافتيه فكلوا ، وما كان جزرا فكلوا .

فكان هذا مما قد وقع فيه الاختلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أولى ما قالوه فيه ما وافق ما قد رويناه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وهو النهي لا الإباحة ، وقد روي عن ابن عباس ما قد زاد على هذا المعنى .

كما حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأجلح .

عن عبد الله بن أبي الهذيل قال : جاء راع إلى ابن عباس قال : إني آتي البحر فأجده قد حفل سمكا ميتا ، فقال : لا تأكل الميتة .

فكان هذا عندنا من قول ابن عباس على ما يخالف ما قاله من [ ص: 214 ] سواه من أهل العلم وهو الحفول الذي يكون معه الطفو على الماء لا ما سواه مما يقذفه ومما يجزر عنه ، فقد عاد قول ابن عباس إلى كراهية أكل الطافي من السمك ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية