الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 354 ] 647 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النذر في الشرك مما لو نذره المسلم وجب عليه أن يفي به ، ثم أسلم الذي نذر ذلك : هل يجب عليه في إسلامه الوفاء بذلك أم لا ؟

قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بعد إسلامه أن يفي بنذره الذي كان نذره في الجاهلية ، فاستدل قوم بذلك على أن من نذر في حال شركه نذرا ، ثم أسلم - مما لو نذره وهو مسلم وجب عليه الوفاء به - أن عليه أن يفي به في إسلامه ، كما يجب عليه الوفاء به لو كان نذره في إسلامه ، فكان من الحجة عليهم في ذلك لمخالفيهم فيه مما لا يوجب ذلك على ناذره ، وهم أكثر أهل العلم أن حديث عمر هذا إنما جاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم له : ف بنذرك ، وهذا القول إنما يقال فيما ليس بواجب ، كما يقال للرجل : ف بوعدك ، وف لفلان بما كان منك إليه من الوعد وما أشبهه ، ويردون ذلك إلى الوفاء ، ويجعلون مكانه في الأشياء الواجبة : أوف بكذا ، ومنه قول الله عز وجل : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ، وقوله : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم .

[ ص: 355 ] وقوله أوفوا بالعقود ، وهي العهود لا اختلاف بين أهل العلم فيها ، ويردون ذلك إلى الإيفاء ، يقولون : أوفى فلان ، يوفي إيفاء ، ويقولون في الأول : وفى فلان لفلان وفاء ، قالوا : فكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : ف بنذرك ، وهو على : "ف" من الوفاء ، وذلك فيما هو أحسن لا في واجب ، فكانت هذه العلة عندنا حسنة غير أنا وجدنا في حديث علي بن مسهر ، عن عبيد الله الذي قد ذكرناه في الباب الذي قبل هذا الباب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أوف بنذرك ، فعاد ذلك إلى معنى الإيفاء لا إلى معنى الوفاء ، فارتفع أن يكون فيما ذكرنا حجة لبعض المختلفين في هذا الباب على بعض ، غير أن الإيفاء قد يستعمل في الواجب وغير الواجب إلا أن الأفصح فيه عند أهل اللغة استعماله في الواجب حتى يتبين من ضده في المعنى الآخر الذي ذكرناه ، ثم نظرنا : هل روي في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يدل على حقيقة الأمر فيه . ؟

4160 - فوجدنا علي بن معبد ، وإبراهيم بن مرزوق جميعا قد حدثانا ، قالا : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا بهز بن حكيم ، عن أبيه عن جده قال : قلت : والله ، يا رسول الله ما أتيتك حتى حلفت عدد هؤلاء - وجمع بين أصابع يديه - أن لا آتيك ولا آتي دينك ، وقد جئتك امرأ لا أعقل شيئا إلا ما علمني الله ورسوله ، وإني أسألك بوجه الله بما بعثك إلينا ربنا عز وجل ؟ قال : بالإسلام . قلت : وما آية الإسلام ؟ قال : أن تقول : أسلمت وجهي لله ، وتخليت ، وتقيم [ ص: 356 ] الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، كل مسلم على مسلم محرم ، أخوان نصيران ، لا يقبل الله من مشرك أشرك بعدما أسلم عملا ، أو يفارق المشركين إلى المسلمين ، ما لي أمسك بحجزكم عن النار ، ألا إن ربي داعي أو راعي - شك ابن مرزوق ، وقال علي في حديثه : ألا إن ربي داعي - ولم يشك - فيقول : هل بلغت عبادي ؟ فأقول : يا رب قد بلغتهم فليبلغ شاهدكم غائبكم ، ثم إنكم تدعون مفدمة أفواهكم بالفدام ، ثم إن أول ما يبين عن أحدكم فخذه وكفه ، ثم نظرت إلى نبي الله حين ضرب بيده فخذه ، قال : قلت : يا نبي الله هذا ديننا ؟ قال : هذا ديني .

قال أبو جعفر : هكذا قال إبراهيم ، وقال علي في حديثه : هذا دينكم ، وأينما تحسن يكفك
.

[ ص: 357 ]

4161 - ووجدنا علي بن الحسين بن حرب قد حدثنا ، قال : حدثنا الفضل بن سهل بن إبراهيم الأعرج ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، حدثنا شبل بن عباد المكي قال : سمعت أبا قزعة يحدث عمرو بن دينار ، عن حكيم بن معاوية .

عن أبيه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إني حلفت عدد أصابعي أن لا أتبعك ، ولا أتبع دينك ، فأنشدك ما الذي بعثك الله عز وجل به ؟ قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول [ ص: 358 ] الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، أخوان نصيران ، لا يقبل الله من أحد توبة أشرك بعد إسلامه ، قال : قلت : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : يطعمها إذا أكلت ويكسوها إذا اكتست ، ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت ، قال : وأشار بيده إلى الشام ، فقال : هاهنا إلى هاهنا تحشرون ركبانا ومشاة وعلى وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام ، توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل ، وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه .

فكان في هذا الحديث إخبار معاوية بن حيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حلف أن لا يأتيه وأن لا يأتي دينه عدد أصابعه ، وإعلامه مع ذلك أنه لا يعقل شيئا إلا ما علمه الله عز وجل ورسوله ، ولم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة عما كان من أيمانه التي قد حنث فيها ، فدل ذلك أنه لم يكن عليه فيها كفارة ، وأن حلفه فيها في حال شركه كلا حلف .

وإذا كان ذلك كذلك في حلفه ، كان في نذره أحرى أن يكون كذلك ، وقد شد ذلك أيضا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه .

[ ص: 359 ]

4162 - كما حدثنا الربيع الجيزي ، حدثنا يعقوب بن كعب الحلبي ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن أبي حرملة يعني عبد الرحمن ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه .

عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما النذر ما ابتغي به وجه الله .

وقد عقلنا أن المشرك لم يبتغ بنذره في شركه وجه الله تعالى ، [ ص: 360 ] فدل ذلك أنه لا معنى لنذره .

وقد شد ذلك أيضا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

4163 - مما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، عن مالك بن أنس .

4164 - وما قد حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب ، عن مالك .

4165 - وما قد حدثنا سليمان بن شعيب حدثنا يحيى بن حسان حدثنا مالك ، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي ، عن القاسم بن محمد .

عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه .

4166 - وما قد حدثنا محمد بن خزيمة حدثنا يوسف بن عدي حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن عبيد الله بن عمر ، عن طلحة بن عبد الملك ، عن القاسم ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

[ ص: 361 ] فدل ذلك أن من نذر ما ليس بطاعة الله تعالى غير واجب عليه ما نذره .

فقال قائل فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في الإسلام ف بنذرك الذي قد كان منك في الجاهلية ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أنه قد يحتمل أن يكون ذلك على معنى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يفي لله عز وجل بطاعة يطيعه بها في الإسلام مكان النذر الذي لم يكن منه طاعة حتى يكون الذي يكون منه حسنة يعملها مكان الذي نذره مما لو عمله في حال شركه لم يكن كذلك ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية