الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 439 ] 862 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مراده بقوله : " لن يجزي ولد والده ، إلا أن يجده مملوكا ، فيشتريه فيعتقه "

5395 - حدثنا يونس ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يجزي ولد والده ، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه .

5396 - وحدثنا محمد بن عمرو بن يونس ، أخبرنا يحيى بن عيسى ، وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا أبو حذيفة ، قالا : حدثنا سفيان - يعنيان الثوري - عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول [ ص: 440 ] الله - صلى الله عليه وسلم - مثله .

5397 - وحدثنا علي بن معبد ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا زهير بن معاوية ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله .

فقال قائل : هذا الحديث يدل على أن الرجل قد يكون عبدا لابنه ; لأن فيه : " إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " ، ففي ذلك ما قد دل على أنه بعد ملكه إياه يكون مملوكا له حتى يعتقه ، وهذا قول لم نعلم أحدا من فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتيا ، ولا ممن تقدمهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تابعيهم ، قاله !

وكان وجه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا : " إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " غير ما توهم هذا القائل ، وهو " فيعتقه " ، أي : فيعتقه بشرائه إياه ; لأنه يكون سببا لعتقه ، وهذا كلام صحيح مستعمل .

[ ص: 441 ] وقد وجدنا في كتاب الله تعالى ما ينفي ملك الأب لابنه ، وهو قوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ، إلى قوله : إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا .

أي : إنه لو كان لله تعالى ولد ، لم يكن له عبدا ; لأن الولد لا يكون عبدا لأبيه ، ولا يقع ملكه عليه ، وإن حملت به منه من ملكه عليها ، وإذا كان الولد لا يكون عبدا لأبيه ، انتفى عن الله أن يكون له ولد ، إذ كان كل من في السماوات والأرض له عبد ، وإذا كان الأب ينتفي عنه ملكه ابنه بحق البنوة ، كان الابن أحرى أن ينتفي ملكه عن أبيه بحق الأبوة ، ثم قد شد ذلك أيضا ما قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فيمن ملك ذا رحم محرم أنه حر .

5398 - كما حدثنا محمد بن عبد الله بن مخلد الأصبهاني ، حدثنا أبو عمير ابن النحاس ، حدثنا ضمرة .

5399 - وكما حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا عيسى بن محمد - يعني أبا عمير - وعيسى بن يونس ، عن ضمرة ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : من ملك ذا رحم محرم عتق .

[ ص: 442 ]

5400 - حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال .

5401 - وكما حدثنا نصر بن مرزوق ، حدثنا أسد بن موسى ، قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : من ملك ذا رحم محرم منه ، فهو حر .

[ ص: 443 ] قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من ملك ذا رحم محرم فهو حر .

5402 - وقد حدثنا محمد بن عبد الله بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من ملك ذا رحم محرم ، فهو حر .

[ ص: 444 ] قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث : " من ملك ذا رحم محرم ، فهو حر " ، فاحتمل أن يكون أراد به ذا الرحم من ذي المحرم ، وأريد بالحديث الذي قبله : ذو الرحم من ذي المحرم ، حتى يصح الحديثان جميعا ، ولا يتضادان ، فيرجع معناهما إلى أن من ملك ذا رحم محرم ، فهو حر .

ثم نظرنا : هل روي هذا الحديث من وجه من الوجوه كذلك ، أم لا . ؟

5403 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : أخبرنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم الأحول وقتادة ، ثم ذكر كلمة - أحمد بن شعيب القائل - معناها : عن الحسن ، عن سمرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من ملك ذا رحم من ذي محرم ، فهو حر .

[ ص: 445 ] فثبت بذلك ما صححنا عليه الحديثين اللذين ذكرناهما عن سمرة في هذا الباب عليه ، فكان في ذلك ما قد شد معنى حديث ضمرة ، عن الثوري ، الذي ذكرناه في هذا الباب .

ثم نظرنا : هل روي في ذلك شيء عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم . - ؟

فوجدنا يزيد بن سنان قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن أبي عوانة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر ، قال : من ملك ذا رحم محرم ، فهو حر .

فطعن طاعن في إسناد هذا الحديث ، بأن قال : فإن عبد الرحمن بن مهدي قد روى هذا الحديث عن أبي عوانة موقوفا .

[ ص: 446 ] فذكر ما .

حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا أبو عوانة ، عن الحكم ، ولم يذكر بعده أحدا لا من إبراهيم ، ولا من الأسود ، قال : قال عمر : من ملك ذا رحم فهو حر .

وكان جوابنا له في ذلك : أن عبد الرحمن بن مهدي كذلك رواه عن أبي عوانة ، وأما أبو عاصم ، فرواه عن أبي عوانة ، كما ذكرناه عنه ، وهو حافظ متقن ، ومن كان كذلك ، كانت زيادته على الحافظ المتقن مقبولة ، ومما يؤكد ما قد روى أبو عاصم عليه هذا الحديث عن أبي عوانة .

ما حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عمرو بن علي ، قال : سمعت أبا الوليد - يعني الطيالسي - يقول : رأيت في كتاب أبي عوانة - يعني هذا الحديث - حدثنا الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر ، ثم ذكر مثله - يعني مثل حديث أبي عاصم - .

فعقلنا بذلك : أن أبا عاصم حفظ من إسناد هذا الحديث ، عن أبي عوانة مما لم يحفظه عنه عبد الرحمن ، ومن حفظ شيئا كان أولى ممن قصر عنه .

[ ص: 447 ] وحدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا شعبة ، حدثنا سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن المستورد : أن رجلا زوج ابن أخيه مملوكته ، فولدت أولادا ، فأراد أن يسترق أولادها ، فأتى ابن أخيه عبد الله بن مسعود ، فقال : إن عمي زوجني وليدته ، وإنها ولدت لي أولادا ، فأراد أن يسترق أولادي ، فقال عبد الله : كذب ، ليس له ذلك .

ففي هذا الحديث : ما قد دل : أن مذهب عبد الله بن مسعود كان في هذا المعنى ، كمذهب عمر - رضي الله عنه - كان فيه ، ولا نعلم عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافا لهما في ذلك ، وما جاء هذا المجيء لم يتسع لأحد خلافه ، ولا القول بغيره ، وهكذا كان أبو حنيفة ، والثوري ، وأكثر أهل العراق ، يذهبون إليه في هذا المعنى ، فأما مالك بن أنس ، فكان يذهب إلى وجوب عتاق الوالدين على ولدهما ، وإلى وجوب عتاق الأخ على أخيه ، وإلى وجوب عتاق الولد ، وإن سفل على من ولده ، ولا يوجب ذلك في ابن أخ على عمه .

وأما آخرون منهم : الشافعي ، فكانوا لا يوجبون العتاق في هذا [ ص: 448 ] المعنى ، إلا في الوالد وإن علا ، وفي الولد وإن سفل ، وفي الأمهات وإن علون ، فأما فيمن سواهم ، فلا ، وإذا ثبت في ذي الرحم المحرم وجوب العتاق له على ذي رحمه الذين هم كذلك أيضا ، كان في ذلك ما قد دل أن ذوي الأرحام المحرمات كذلك أيضا ، وكان فيما ذكرنا من ذلك شد لما حملنا عليه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بدأنا بذكره في هذا الباب عليه ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية