الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أحمد بن سليمان النجاد، قال: حدثنا بشر بن موسى، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، وأخبرنا أبو عبد الله قال: أخبرنا محمد بن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن رجاء، وعمران بن موسى، قالا: حدثنا هدبة بن خالد، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، قال: حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا عن قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وذي هيئة، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس قال: فجاء خالنا فنثا علينا ما قيل له قال: فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي قال: فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة [ ص: 209 ] مكة قال: فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتينا الكاهن فخير أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها.

                                        قال: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فقلت: لمن؟ قال: لله.

                                        قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني الله، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء - في حديث المقرئ يعني الثوب - حتى تعلوني الشمس قال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني حتى آتيك، فانطلق أنيس حتى أتى مكة، فراث علي , ثم أتاني، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله.

                                        قال: قلت: ما يقول الناس؟ قال: يقولون إنه لشاعر، وساحر، وكاهن قال: وكان أنيس أحد الشعراء قال: فقال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقوال الشعراء وقال غيره: على أقراء الشعر فوالله ما يلتئم، على لسان أحد بعدي، إنه شعر، ووالله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.

                                        قال: قلت له: هل أنت كافيني حتى أنطلق فأنظر؟ فقال: نعم , وكن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنفوا له وتجهموا، فانطلقت حتى قدمت مكة [ ص: 210 ] فتضعفت رجلا منهم، فقلت: أين هذا الذي تدعونه: الصابئ قال: فأشار إلى الصابئ.

                                        قال: فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي قال: فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، فدخلت بين الكعبة وأستارها، ولقد لبثت يا ابن أخي ثلاثين من بين يوم وليلة، ومالي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع قال: فبينما أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، قد ضرب الله تعالى على أصمخة أهل مكة، فما يطوف بالبيت أحد غير امرأتين، فأتتا علي، وهما يدعوان إسافا ونائلة قال: فأتتا علي في طوافهما، فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى، قال: فما تناهيتا عن قولهما - وقال غيره: فما ثناهما ذلك عما قالا - قال: فأتيا علي فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني، فانطلقتا تولولان وتقولان [ ص: 211 ] : لو كان هاهنا أحد من أنفارنا.

                                        قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل، فقالا لهما: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها؛ قال: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم.

                                        فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه، فاستلم الحجر، ثم طاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، فلما قضى صلاته قال أبو ذر: فأتيته فكنت أول من حياه بتحية الإسلام، فقال: وعليك ورحمة الله , ثم قال: ممن أنت؟ قلت: من غفار قال: فأهوى بيده، فوضع يده على جبينه , فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار قال: فأهويت لآخذ بيده، فقدعني صاحبه وكان أعلم به مني، ثم رفع رأسه فقال: متى كنت ها هنا؟ قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين ليلة ويوما قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها مباركة إنها طعام طعم وشفاء سقم" .

                                        فقال أبو بكر: يا رسول الله ائذن لي في إطعامه الليلة، ففعل، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، فكان ذاك أول طعام أكلته بها قال: فغبرت ما غبرت , ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل، لا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك، لعل الله أن ينفعهم [ ص: 212 ] بك، ويأجرك فيهم" فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا فقال لي: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت قال: فما بي رغبة عن دينك، فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت قال: ثم احتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري قال: وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا.

                                        قال: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم بقيتهم، وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله إخواننا، نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله"
                                        رواه مسلم في الصحيح عن هداب بن خالد.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية