الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 82 ] ذكر سبب إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه.

                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ رحمه الله في زيادات الفوائد، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا علي بن عاصم قال: أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن زيد بن صوحان أن رجلين من أهل الكوفة كانا صديقين لزيد بن صوحان، أتياه أن يكلم لهما سلمان أن يحدثهما بحديثه كيف كان أول إسلامه؟ فأقبلا معه حتى لقوا سلمان وهو بالمدائن، أميرا عليها، وإذا هو على كرسي قاعد، وإذا خوص بين يديه وهو يشقه.

                                        قالا: فسلمنا وقعدنا، فقال له زيد: يا أبا عبد الله، إن هذين لي صديقان، ولهما إخاء، وقد أحبا أن يسمعا حديثك كيف كان أول إسلامك؟

                                        [ ص: 83 ] قال: فقال سلمان: كنت يتيما من رامهرمز، وكان ابن دهقان رامهرمز يختلف إلى معلم يعلمه، فلزمته لأكون في كنفه , وكان لي أخ أكبر مني، وكان مستغنيا في نفسه، وكنت غلاما فقيرا، فكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه، فإذا تفرقوا خرج فتقنع بثوبه، ثم يصعد الجبل، فكان يفعل ذلك غير مرة متنكرا قال: فقلت: أما إنك تفعل كذا وكذا، فلم لا تذهب بي معك؟ قال: أنت غلام، وأخاف أن يظهر منك شيء قال: قلت: لا تخف.

                                        قال: فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة ولهم صلاح، يذكرون الله تعالى، ويذكرون الآخرة، ويزعمون أنا عبدة النيران، وعبدة الأوثان، وأنا على غير دين، قلت: فاذهب بي معك إليهم.

                                        قال: لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم، وأنا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي، فيقتل القوم، فيجري هلاكهم على يدي.

                                        قال: قلت: لم يظهر مني ذلك.

                                        فاستأمرهم، فأتاهم، فقال: عندي غلام يتيم فأحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم، قالوا: إن كنت تثق به، قال: أرجو أن لا يجيء منه إلا ما أحب.

                                        قالوا: فجئ به.

                                        فقال لي: قد استأذنت القوم أن تجيء معي، فإذا كانت الساعة التي رأيتني أخرج فيها فأتني، ولا يعلم بك أحد، فإن أبي إن علم بهم قتلهم.

                                        قال: فلما كانت الساعة التي يخرج تبعته، فصعد الجبل، فانتهينا [ ص: 84 ] فيه إليهم.

                                        فإذا هم في برطيلهم قال علي: وأراه قال: هم ستة أو سبعة قال: وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار، ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا.

                                        فقعدنا إليهم، فأثنى ابن الدهقان علي خيرا.

                                        فتكلموا فحمدوا الله، وأثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم، فقالوا: بعثه الله، وولد لغير ذكر، بعثه الله رسولا، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى، وخلق الطير، وإبراء الأعمى والأبرص، فكفر به قوم، وتبعه قوم، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به خلقه قال: وقالوا قبل ذلك: يا غلام، إن لك ربا، وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا إليهما تصير، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة، فلا يرضى الله تعالى بما يصنعون، وليسوا على دين.

                                        فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام انصرف.

                                        وانصرفت معه , ثم غدونا إليهم فقالوا: مثل ذلك وأحسن.

                                        ولزمتهم فقالوا لي: يا سلمان إنك غلام، وإنك لا تستطيع أن تصنع ما نصنع، فصل، ونم، وكل، واشرب قال: فاطلع الملك على صنيع ابنه، فركب في الخيل، ثم أتاهم في برطيلهم فقال: يا هؤلاء، قد جاورتموني فأحسنت جواركم، ولم تروا مني سوءا فعمدتم إلى ابني فأفسدتموه علي، قد أجلتكم ثلاثا، فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا، فالحقوا ببلادكم، فإني أكره أن يكون مني إليكم سوء، قالوا: نعم , ما تعمدنا مساءتك، ولا أردنا إلا الخير.

                                        فكف ابنه عن إتيانهم، فقلت له: اتق الله، فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله، وإن أباك ونحن على غير دين، إنما هم عبدة النيران لا يعرفون الله، فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك .

                                        [ ص: 85 ] قال: يا سلمان، هو كما تقول، وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم: إن تبعت القوم طلبني أبي في الخيل، وقد جزع من إتياني إياهم حتى طردهم، وقد أعرف أن الحق في أيديهم، وقلت: أنت أعلم , ثم لقيت أخي فعرضت عليه.

                                        فقال: أنا مشتغل بنفسي في طلب المعيشة , فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه، فقالوا: يا سلمان، قد كنا نحذر فكان ما رأيت.

                                        اتق الله، واعلم أن الدين ما أوصيناك به، وأن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون الله ولا يذكرونه، فلا يخدعنك أحد عن ذلك، قلت: ما أنا بمفارقكم، قالوا: إنك لا تقدر أن تكون معنا نحن نصوم النهار، ونقوم الليل، ونأكل الشجر وما أصبنا، وأنت لا تستطيع ذلك.

                                        قال: قلت: لا أفارقكم.

                                        قالوا: أنت أعلم، قد أعلمناك حالنا، فإذا أتيت فاطلب حذاء يكون معك، واحمل معك شيئا تأكله فإنك لن تستطيع ما نستطيع نحن.

                                        قال: ففعلت، ولقيت أخي فعرضت عليه، فأبى، فأتيتهم فتحملوا فكانوا يمشون وأمشي معهم، فرزق الله السلامة حتى قدمنا الموصل، فأتينا بيعة بالموصل، فلما دخلوا حفوا بهم وقالوا: أين كنتم؟ قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله تعالى، بها عبدة النيران فطردونا، فقدمنا عليكم.

                                        فلما كان بعد قالوا: يا سلمان إن ههنا قوما في هذه الجبال هم أهل دين، وإنا نريد لقاءهم.

                                        فكن أنت ههنا مع هؤلاء فإنهم أهل دين وسترى منهم ما تحب.

                                        قلت: ما أنا بمفارقكم.

                                        قال: وأوصوا بي أهل البيعة، فقال أهل البيعة: أقم معنا يا غلام، فإنه لا يعجزك شيء يسعنا.

                                        قال: قلت: ما أنا بمفارقكم، فخرجوا وأنا معهم، فأصبحنا بين جبال فإذا [ ص: 86 ] صخرة وماء كثير في جرار وخبز كثير، فقعدنا عند الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال، يخرج رجل رجل من مكانه، كأن الأرواح انتزعت منهم حتى كثروا فرحبوا بهم وحفوا، وقالوا: أين كنتم , لم نركم؟ قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون اسم الله تعالى، فيها عبدة النيران، وكنا نعبد الله تعالى فطردونا.

                                        فقالوا: ما هذا الغلام؟ قال: فطفقوا يثنون علي، وقالوا: صحبنا من تلك البلاد، فلم نر منه إلا خيرا.

                                        قال: فوالله إنهم لكذا، إذ طلع عليهم رجل من كهف، رجل طوال، فجاء حتى سلم وجلس، فحفوا به وعظموه أصحابي الذين كنت معهم، وأحدقوا به، فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه قال: ما هذا الغلام معكم؟ فأثنوا علي خيرا، وأخبروه باتباعي إياهم، ولم أر مثل إعظامهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسل الله تعالى من رسله وأنبيائه، وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر مولد عيسى ابن مريم وأنه ولد لغير ذكر، فبعثه رسولا، وأجرى على يديه إحياء الموتى وإبراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.

                                        وأنزل عليه الإنجيل، وعلمه التوراة، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، فكفر به قوم، وآمن به قوم.

                                        وذكر بعض ما لقي عيسى ابن مريم، وأنه لما كان عبدا أنعم الله عليه، فشكر ذلك له، ورضي عنه حتى قبضه الله تعالى.

                                        وهو يعظهم ويقول: اتقوا الله، والزموا ما جاء به عيسى عليه السلام، ولا تخالفوا فيخالف بكم، ثم قال: من أراد أن يأخذ من هذا شيئا [ ص: 87 ] فليأخذ، فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام والشيء، فقام إليه أصحابي الذين جئت معهم فسلموا عليه وعظموه، فقال لهم: الزموا هذا الدين، وإياكم أن تفرقوا، واستوصوا بهذا الغلام خيرا.

                                        فقال لي: يا غلام، هذا دين الله الذي تسمعني أقوله، وما سواه هو الكفر.

                                        قال: قلت: ما أفارقك.

                                        قال: لا إنك لا تستطيع أن تكون معي، إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد، ولا تقدر على الكينونة معي.

                                        قال: وأقبل علي أصحابه، فقالوا: يا غلام، إنك لا تستطيع أن تكون معه.

                                        قلت: ما أنا بمفارقك.

                                        قال: يا غلام، فإني أعلمك الآن أني أدخل هذا الكهف، ولا أخرج منه إلا الأحد الآخر، فأنت أعلم، قلت: ما أنا بمفارقك قال له أصحابه: يا أبا فلان، هذا غلام ويخاف عليه قال: قال لي: أنت أعلم، قلت: إني لا أفارقك فبكى أصحابي الأولون الذين كنت معهم عند فراقهم إياي، فقال: خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الآخر، وخذ من هذا الماء ما تكتفي به.

                                        ففعلت وتفرقوا، وذهب كل إنسان إلى مكانه الذي يكون فيه، وتبعته حتى دخل الكهف في الجبل، وقال: ضع ما معك وكل واشرب.

                                        وقام يصلي، فقمت خلفه أصلي قال: فانفتل إلي، وقال: إنك لا تستطيع هذا، ولكن صل ونم، وكل واشرب.

                                        ففعلت فما رأيته نائما ولا طاعما، إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر.

                                        فلما أصبحنا قال: خذ جرتك هذه وانطلق.

                                        فخرجت معه أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة، وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال، واجتمعوا إلى الصخرة ينتظرون خروجه، فقعدوا وعاد في حديثه نحو المرة الأولى، فقال: الزموا هذا الدين ولا تفرقوا، واتقوا الله واعلموا أن عيسى ابن مريم كان عبدا [ ص: 88 ] لله أنعم الله عليه , ثم ذكرني.

                                        فقالوا له: يا أبا فلان، كيف وجدت هذا الغلام؟ فأثنى علي، وقال خيرا، فحمدوا الله تعالى، وإذا خبز كثير وماء، فأخذوا وجعل الرجل يأخذ بقدر ما يكتفي به.

                                        ففعلت.

                                        وتفرقوا في تلك الجبال ورجع إلى كهفه، ورجعت معه.

                                        فلبث ما شاء الله يخرج في كل يوم أحد، فيخرجون معه فيحفون به ويوصيهم بما كان يوصيهم به، فخرج في أحد، فلما اجتمعوا حمد الله ووعظهم، وقال مثل ما كان يقول لهم، ثم قال لهم آخر ذلك: يا هؤلاء، إنه قد كبر سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وإنه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا ولا بد من إتيانه، فاستوصوا بهذا الغلام خيرا، وإني رأيته لا بأس به.

                                        قال: فجزع القوم فما رأيت مثل جزعهم، وقالوا: يا أبا فلان أنت كبير، وأنت وحدك، ولا نأمن أن يصيبك الشيء، ولسنا أحوج ما كنا إليك.

                                        قال: لا تراجعوني، لا بد لي من إتيانه، ولكن استوصوا بهذا الغلام خيرا، وافعلوا وافعلوا.

                                        قال: قلت: ما أنا بمفارقك قال: يا سلمان، قد رأيت حالي وما كنت عليه، وليس هذا كذلك، إنما أمشي، أصوم النهار، وأقوم الليل، ولا أستطيع أن أحمل معي زادا، ولا غيره، ولا تقدر على هذا.

                                        قال: قلت: ما أنا بمفارقك.

                                        قال: أنت أعلم.

                                        قالوا: يا أبا فلان، إنا نخاف على هذا الغلام.

                                        قال: هو أعلم، قد أعلمته الحال، وقد رأى ما كان قبل هذا.

                                        فقلت: لا أفارقك.

                                        قال: فبكوا وودعوه، وقال لهم: اتقوا الله، وكونوا على ما أوصيتكم به، فإن أعش فلعلي أرجع إليكم، وإن أمت فإن الله حي لا يموت.

                                        فسلم عليهم وخرج وخرجت معه، وقال لي: احمل معك هذا الخبز [ ص: 89 ] شيئا تأكله.

                                        فخرج وخرجت معه يمشي وأتبعه، يذكر الله ولا يلتفت، ولا يقف على شيء حتى إذا أمسى قال: يا سلمان، صل أنت ونم، وكل واشرب , ثم قام وهو يصلي، إلى أن انتهينا إلى بيت المقدس، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء إذا أمسى حتى انتهينا إلى بيت المقدس، وإذا على الباب مقعد قال: يا عبد الله، قد ترى حالي، فتصدق علي بشيء، فلم يلتفت إليه، ودخل المسجد، ودخلت معه.

                                        فجعل يتتبع أمكنة من المسجد يصلي فيها , ثم قال: يا سلمان، إني لم أنم منذ كذا وكذا، ولم أجد طعم نوم، فإن أنت جعلت لي أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت، فإني أحب أن أنام في هذا المسجد وإلا لم أنم.

                                        قال: فإني أفعل قال: فانظر إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا، فأيقظني إذا غلبتني عيني.

                                        فنام فقلت في نفسي: هذا لم ينم منذ كذا وكذا، وقد رأيت بعض ذلك، لأدعنه ينام حتى يشفى من النوم.

                                        وكان فيما يمشي، وأنا معه، يقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا، وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا، ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد حتى قال فيما يقول لي: يا سلمان، إن الله تعالى، سوف يبعث رسولا اسمه أحمد، يخرج بتهامة وكان رجلا أعجميا لا يحسن أن يقول تهامة ولا محمدا.

                                        علامته أنه يأكل الهدية.

                                        ولا يأكل الصدقة،
                                        بين كتفيه خاتم، وهذا زمانه الذي يخرج فيه فقد تقارب، فأما أنا فشيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه.

                                        قلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟ قال: وإن أمرك، فإن الحق فيما يجيء به، ورضا الرحمن فيما قال.

                                        قال : [ ص: 90 ] فلم يمض إلا يسيرا حتى استيقظ فزعا يذكر الله، فقال: يا سلمان مضى الفيء من هذا المكان، ولم أذكر الله، أين ما جعلت لي على نفسك؟ قال: قلت: أخبرتني أنك لم تنم منذ كذا وكذا، وقد رأيت بعض ذلك، فأحببت أن تستشفى من النوم.

                                        فحمد الله وقام فخرج، فتبعته فمر بالمقعد، فقال المقعد: يا عبد الله دخلت فسألتك فلم تعطني، وخرجت فسألتك فلم تعطني.

                                        فقام ينظر هل يرى أحدا فلم يره، فدنا منه فقال: ناولني يدك فناوله، فقال: قم باسم الله فقام، كأنه نشط من عقال صحيحا لا عيب فيه فخلاه عن يده فانطلق ذاهبا، وكان لا يلوي على أحد، ولا يقوم عليه، فقال لي المقعد: يا غلام احمل علي ثيابي حتى أنطلق وأبشر أهلي.

                                        فحملت عليه ثيابه، وانطلق لا يلوي علي، فخرجت في إثره أطلبه، وكلما سألت عنه قالوا: أمامك حتى لقيني الركب من كلب فسألتهم، فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني خلفه حتى أتوا بي بلادهم.

                                        قال: فباعوني، فاشترتني امرأة من الأنصار، فجعلتني في حائط لها.

                                        وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرت به، فأخذت شيئا من تمر حائطي فجعلته على شيء، ثم أتيته فوجدت عنده أناسا، وإذا أبو بكر أقرب القوم منه، فوضعته بين يديه، فقال: "ما هذا؟" قلت: صدقة قال للقوم: كلوا، ولم يأكل هو.

                                        ثم لبثت ما شاء الله، ثم أخذت مثل ذلك فجعلته على شيء، ثم أتيته [ ص: 91 ] فوجدت عنده أناسا، وإذا أبو بكر أقرب القوم منه، فوضعته بين يديه فقال: "ما هذا؟" قلت: هدية.

                                        قال: "بسم الله" .

                                        فأكل وأكل القوم.

                                        قال: قلت في نفسي: هذه من آياته كان صاحبي رجل أعجمي لم يحسن أن يقول: تهامة قال: تهمة.

                                        وقال: أحمد.

                                        فدرت خلفه، ففطن لي فأرخى ثوبه فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته، ثم درت حتى جلست بين يديه فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله قال: من أنت؟ قلت: مملوك.

                                        فحدثته حديثي وحديث الرجل الذي كنت معه، وما أمرني به قال: لمن أنت؟ قلت: لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها.

                                        قال: يا أبا بكر قال: لبيك.

                                        قال: اشتره.

                                        فاشتراني أبو بكر فأعتقني، فلبثت ما شاء الله أن ألبث، ثم أتيته فسلمت عليه، وقعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله، ما تقول في دين النصارى؟ قال: "لا خير فيهم، ولا في دينهم.

                                        " فدخلني أمر عظيم، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت معه ورأيت منه ما رأيت، ثم رأيته أخذ بيد المقعد، فأقامه الله على يده، لا خير في هؤلاء ولا في دينهم.

                                        فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله، فأنزل الله على النبي: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون إلى آخر الآية.

                                        فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي سلمان.

                                        فأتاني الرسول فدعاني وأنا خائف، فجئت حتى قعدت بين يديه، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم.

                                        ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون إلى آخر الآيات.

                                        فقال يا سلمان: "أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى، إنما كانوا مسلمين" فقلت: يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق، لهو أمرني باتباعك؛ فقلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه فأتركه؟ قال : [ ص: 92 ] نعم , فاتركه؛ فإن الحق وما يحب الله فيما يأمرك به.


                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية