الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 311 ] باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم مع من بقي من أصحابه شعب أبي طالب وما ظهر من الآيات في صحيفة المشركين التي كتبوها على بني هاشم وبني المطلب حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن أراد قتله

                                        أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان قال: أخبرنا أبو بكر بن عتاب، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا ابن أبي أويس، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهري وهذا لفظ حديث القطان قال: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ولا تأخذهم به رأفة حتى [ ص: 312 ] يسلموه للقتل، فلبث بنو هاشم في شعبهم يعني ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله، فإذا نوم الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن بني قصي، ورجال سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وبعث الله عز وجل على صحيفتهم التي المكر فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق.

                                        ويقال: كانت معلقة في سقف البيت، ولم تترك اسما لله عز وجل فيها إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلمة أو قطيعة رحم، وأطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم [ ص: 313 ] عامدين لجماعتهم، أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء فأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم، فوضعوها بينهم وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني: أن الله عز وجل بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا، فوالله لا نسلمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم.

                                        قالوا: قد رضينا بالذي يقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب، قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين رهطه، والقيام بما تعاهدوا عليه، فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون؟ فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم [ ص: 314 ] وهي في أيديكم، طمس الله ما كان فيها من اسم وما كان من بغي تركه، أفنحن السحرة أم أنتم؟ فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف، وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم منهم: أبو البختري، والمطعم بن عدي، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، وزمعة بن الأسود، وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده، وهو من بني عامر بن لؤي في رجال من أشرافهم ووجوههم: نحن برآء مما في هذه الصحيفة.

                                        فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمتدح النفر الذين تبرؤوا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي،
                                        وذكر موسى بن عقبة تلك الأبيات " وهكذا ذكر شيخنا أبو عبد الله الحافظ رحمه الله هذه القصة، عن أبي جعفر البغدادي، عن محمد بن عمرو بن خالد، عن أبيه عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية