قال الشيخ الإمام القدوة الزاهد العابد العارف عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي الذي قال في حقه شيخ الإسلام ابن تيمية : إنه جنيد وقته ، وكان من أصحاب ابن تيمية المعتبرين ، في رسالته التي كتبها لجماعة شيخ الإسلام يحثهم على متابعته ويعظمه في نفوسهم ويذكر لهم من حقه ما يجب .
قال في أول الرسالة : وأبدأ من ذلك بأني أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله وهي وصية الله تعالى إلينا وإلى الأمم من قبلنا كما بين سبحانه وتعالى قائلا وموصيا { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } وقد علمتم تفاصيل بحسب الأوقات والأحوال من الأقوال والأعمال والإرادات والنيات . التقوى على الجوارح والقلوب
وينبغي لنا جميعا أن لا نقنع من الأعمال بصورها حتى نطالب قلوبنا بين يدي الله تعالى بحقائقها ، ومع ذلك فليكن لنا همة علوية تترامى إلى أوطان القرب ونفحات المحبوبية والحب ، فالسعيد من حظي من ذلك بنصيب وكان سيده ومولاه منه على سائر الأحوال قريبا ، إلى أن قال : وليكن لنا جميعا من الليل والنهار ساعة نخلو فيها بربنا جل اسمه ، وتعالى قدسه ، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا ، ونطرح أشغال الدنيا عن قلوبنا ، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار ، فبذلك يعرف [ ص: 61 ] الإنسان مع ربه .
فمن كان له مع ربه حال تحركت في تلك الساعة عزائمه ، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره ، وطالت إلى العلا زفراته وكوامنه وتلك الساعة أنموذج لحالة العبد في قبره حين خلوه عن ماله وولده ، فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار ، لما احتوشته من الهموم الدنيوية ذوات الآصار ، فليعلم أنه ليس له ثم رابطة علوية ، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية ، فليبك على نفسه ، ولا يرضى منها إلا بنصيب من قرب ربه وأنسه .
فإذا خلصت لله تلك الساعة أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشية والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع ، فلا ينبغي أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة بساعة لله الواحد القهار نعبده فيها حق عبادته ، ثم نجتهد على إيقاع الصلوات على ذلك النهج .
وقال في محل آخر في غير الرسالة : ويحاسب الإنسان نفسه في حركات جوارحه السبع من حين تطلع الشمس إلى أن تغيب ، ومن غروبها إلى أن تطلع ، وهي العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، وسيأتي الكلام عليها .
وأصل الجميع القلب بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم { } رواه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب البخاري . ومسلم
فإصلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه ، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة ربه ومحبة ما يحبه ، وخشيته وخشية الوقوع فيما يكرهه ، صلحت حركات جوارحه كلها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوقي المشتبهات ، حذرا من الوقوع في المحرمات وحصلت له السلامة من جميع الآفات ، والعافية من كل الهلكات .
وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع هواه ، وطلب ما يحبه ولو كرهه مولاه ، فسدت حركات الجوارح ، وانبعث إلى كل المعاصي والقبائح . ولذا يقال القلب ملك الأعضاء وهي جنوده الطائعة ، وحركتها كلها لحركته تابعة .
فإن كان الملك صالحا كانت الجنود صالحة ، وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه الحالة الفاضحة . وقد نص القرآن الحكيم ، أنه لا ينفع عند الله إلا القلب السليم . وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه { } فالقلب السليم هو الذي ليس فيه سوى ما يحبه الرب الحكيم . وأسألك قلبا سليما
[ ص: 62 ] وفي مسند سيدنا الإمام طيب الله مثواه عن أحمد خادم رسول الله رضي الله عنه وأرضاه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { أنس بن مالك } قال لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه الحافظ ابن رجب - عليه رحمة ربه - : المراد باستقامة إيمانه استقامة أعمال جوارحه في طاعة ربه ، فإن أعمالها لا تستقيم إلا باستقامة قلبه . أن يكون ممتلئا من تعظيم الله وحبه ، وحب طاعته ، وكراهة معصيته وغضبه . ومعنى استقامة القلب
قال الحسن لرجل : داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم ، يعني أن مطلوب الرب من العباد ، صلاح قلوبهم من المحن والفساد ، ولا صلاح للقلوب ، حتى تستقر فيها معرفة علام الغيوب ، وتمتلئ من خوفه وخشيته ومحبته وعظمته والتوكل عليه ومهابته والالتجاء إليه ، وهذا حقيقة التوحيد لله تعالى ، وهو معنى ( لا إله إلا الله ) فلا صلاح للقلوب حتى تفرد محبة المحبوب .
وروى عن الليث في قوله تعالى : { مجاهد لا تشركوا بي شيئا } لا تحبوا غيري .
وفي صحيح عن الحاكم رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { عائشة } وأدناه أن يحب على شيء من الجور ، وأن يبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض . قال تعالى { الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي ويدل على ذلك قوله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } .
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { } قال من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان الحافظ ابن رجب : ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرا وباطنا . ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله ، فسارعت إلى ما فيه رضاه وكفت عما يكرهه .
قال الحسن ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية ، فإن كانت طاعة [ ص: 63 ] تقدمت ، وإن كانت معصية تأخرت .
وقال محمد بن الفضيل البلخي : ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل .
وقيل : لو تنحيت من الظل إلى الشمس ، فقال هذه خطا لا أدري كيف تكتب . فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم فلم يبق فيها إرادة لغير الله صلحت جوارحهم فلم تتحرك إلا لله عز وجل مما فيه رضاه . لداود الطائي