مطلب : هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب أم لا بد من إعلامه ؟ 
وقال الإمام المحقق ابن القيم  في كتابه الكلم الطيب والعمل الصالح : من اغتاب أخاه المسلم يذكر عن النبي  صلى الله عليه وسلم أن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته بقول اللهم اغفر لنا وله . ذكره  البيهقي  في الدعوات  [ ص: 577 ] الكبير ، قال وفي إسناده ضعف . قال وهذه المسألة فيها قولان للعلماء ، وهما روايتان عن الإمام  أحمد  ، وهما هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب أم لا بد من إعلامه وتحلله . قال والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه بل يكفيه الاستغفار وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها . 
قال وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية  وغيره . والذين قالوا لا بد من إعلامه جعلوا الغيبة كالحقوق المالية . والفرق بينهما ظاهر ، فإن في الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه ، فإن شاء أخذها وإن شاء تصدق بها ، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع ، فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به ، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدا . وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم لا يبيحه ولا يجوزه فضلا عن أن يوجبه ويأمر به ، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها لا على تحصيلها وتكميلها . انتهى . 
وأما ذكر الحافظ ابن الجوزي  لحديث { إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته    } في الموضوعات ، فقد تعقبه الجلال السيوطي  في البديعات بما يشعر أنه ضعيف لا موضوع ، فإنه قال حديث  أنس  أخرجه  البيهقي  في الدعوات وقال في هذا الإسناد ضعف وله شاهد عن  عبد الله بن المبارك  من قوله أخرجه  البيهقي  في الشعب ، وأورد له شاهدا حديث  حذيفة    { كان في لساني ذرب على أهلي فسألت النبي  صلى الله عليه وسلم فقال أين أنت من الاستغفار ، ثم أوله على أن الأمر بالاستغفار ، رجاء أن يرضي الله عنه خصمه يوم القيامة ببركة استغفاره    } . هذا كلامه بحروفه ، ولا يخفى أن في رائحة كلامه أن الحديث حسن لغيره . 
وذكر  ابن عبد البر  في كتابه بهجة المجالس قال  حذيفة  رضي الله عنه : كفارة من اغتبته أن تستغفر له . وقال  عبد الله بن المبارك   لسفيان بن عيينة    : التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ، فقال سفيان  بل تستغفره مما قلت فيه ، فقال  ابن المبارك    : لا تؤذه مرتين قال في الآداب الكبرى : ومثل قول  ابن المبارك  اختار الشيخ تقي الدين   وابن الصلاح الشافعي  في فتاويه . 
وقال  [ ص: 578 ] شيخ الإسلام  رضي الله عنه بعد أن ذكر الروايتين في المسألة المذكورة : فكل مظلمة في العرض من اغتياب صادق وبهت كاذب فهو في معنى القذف ، إذ القذف قد يكون صادقا فيكون غيبة ، وقد يكون كاذبا فيكون بهتا ، واختار أصحابنا أنه لا يعلمه بل يدعو له دعاء يكون إحسانا إليه في مقابلة مظلمته كما روي في الأثر ، وهذا أحسن من إعلامه ، فإن في إعلامه زيادة إيذاء له ، فإن تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم . ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على الظالم أولا إذ النفوس لا تقف غالبا عند العدل والإنصاف ، ففي إعلامه هذان الفاسدان . 
وفيه مفسدة ثالثة ولو كانت بحق وهو زوال ما بينهما من كمال الألفة والمحبة أو تجدد القطيعة والبغضة والله تعالى أمر بالجماعة ونهى عن الفرقة ، وهذه المفسدة قد تعظم في بعض المواضع أكثر من بعض ، وليس في إعلامه فائدة إلا تمكينه من استيفاء حقه كما لو علم فإن له أن يعاقب إما بالمثل إن أمكن أو بالتعزير أو بالحد . وإذا كان في الإيفاء من الجنس مفسدة عدل إلى غير الجنس ، كما في القذف والفرية والجراح إذا خيف الحيف . 
وهنا قد لا يكون حقه إلا في غير الجنس ، أما العقوبة أو الأخذ من الحسنات كما قال النبي  صلى الله عليه وسلم { من كانت عنده مظلمة لأخيه في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحله قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات ، فإن كان له حسنات أخذ من حسنات صاحبه فأعطيها وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته فألقيت على صاحبه ثم يلقى في النار    } وإذا كان كذلك فيعطيه في الدنيا حسنة بدل الحسنة { إن الحسنات يذهبن السيئات     } فالدعاء له والاستغفار إحسان إليه ، وكذلك الثناء عليه بدل الذم له ، وهذا عام فيمن طعن على شخص أو لعنه أو تكلم بما يؤذيه أمرا أو خبرا بطريق الاقتداء أو التحضيض أو غير ذلك ، فإن أعمال اللسان أعظم من أعمال اليد حيا أو ميتا ، حتى ولو كان ذلك بتأويل أو شبهة ثم بان له الخطأ ، فإن كفارة ذلك أن يقابل الإساءة إليه بالإحسان بالشهادة له بما فيه من الخير والشفاعة له بالدعاء ، فيكون الثناء والدعاء بدل الطعن واللعن . 
ويدخل في هذا الطعن  [ ص: 579 ] واللعن الجاري بتأويل سائغ أو غير سائغ ، كالتكفير والتفسيق ونحو ذلك مما يقع بين المتكلمين في أصول الدين وفروعه ، كما يقع بين أصناف الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وغيرهم من أنواع أهل العلم والنهى ، من كلام بعضهم في بعض تارة بتأويل مجرد وتارة بتأويل مشوب بهوى وتارة بهوى محض ، بل تخاصم هذا الضرب بالكلام والكتب كتخاصم غيرهم بالأيدي والسلاح ، وهو شبيه بقتال أهل العدل والبغي والطائفتين الباغيتين والعادلتين من وجه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					