الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : : في الخضاب وفوائد الحناء .

( فائدة ) : نقل الإمام المحقق في الهدي النبوي ، وابن مفلح في الآداب الكبرى ، وسبط بن المرصفي ، وأكثر من أن أحصي من ذكر ذلك عدا أن الحناء إذا طلي به أسفل الرجلين أول خروج الجدري أمن على العينين منه . وقال بعض الأطباء : إن الحناء إذا جعل بماء الورد ويسير العصفر والزعفران ولطخ به أسفل الرجلين عند مبادئ الجدري حفظ العين منه ، فزادنا هذا الطبيب هذه الكيفية والله أعلم .

إذا علمت هذا فاعلم أن تغيير الشيب بغير السواد مندوب ، وفعله مسنون مطلوب ، نص عليه إمام الأئمة ، ومجلي دجى الظلمات المدلهمة ، سيدنا الإمام أحمد رضوان الله عليه ، قيل له ما نستحي نخضب ، فقال [ ص: 417 ] سبحان الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم } قال في الآداب الكبرى : ويستحب بحناء وكتم لفعل النبي صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد وابن ماجه وإسناده ثقات . ولفعل أبي بكر رضي الله عنه متفق عليه .

ولا بأس بالورس والزعفران قاله القاضي ، وجزم به في الإقناع وغيره . وفي التلخيص والشرح . وقدم بعض الأصحاب أن خضابه بغير السواد سنة وقال نص عليه ، وهو ظاهر إطلاق الناظم رحمه الله لما روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك } قال ابن مفلح : حديث حسن ، ورواه النسائي .

وقال أبو مالك الأشجعي عن أبيه { كان خضابنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالورس والزعفران } رواه الإمام أحمد .

وأما بالسواد فمكروه ، نص عليه . قال في الآداب الكبرى : قيل له : تكره السواد ؟ قال إي والله { لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن والد أبي بكر رضي الله عنهما وجنبوه السواد } رواه مسلم .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة } رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد . قال في الآداب : إسناد جيد ، وكذا قال الحافظ المنذري إشارة .

وأخرج الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي الدرداء رفعه { من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة } سنده لين والله أعلم .

قال في الآداب الكبرى : والكراهة في كلام الإمام أحمد للتحريم أو للتنزيه على وجهين . وقال في الفروع : ويكره بالسواد اتفاقا نص عليه ، وفي [ ص: 418 ] المستوعب والتلخيص والغنية في غير حرب ولا يحرم .

وظاهر كلام أبي المعالي يحرم وهو متجه . قال في الإقناع وغيره : فإن حصل به تدليس في بيع أو نكاح حرم . قال في الفروع : وللشافعية خلاف ، واستحبه في الفنون بالسواد في الحرب ، وأن ما ورد من ذمه والنهي عنه فإنه في بيع أو نكاح كسائر التدليس . وقال في المستوعب : إنه لا يكره يعني الخضاب بالسواد في الحرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم { اخضبوا بالسواد فإنه أنس للزوجة ومكيدة للعدو } قال في الآداب : وهذا خبر لا يصح .

وفي الأحكام السلطانية أن المحتسب يمنع من يخضب بالسواد في الجهاد وغيره . قال في الآداب : وعند الشافعية يستحب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة ويحرم بالسواد على الأصح عندهم .

وقال بعض السلف والخلف : ترك الخضاب أفضل مع أنه كان ابن عمر وأبو هريرة وآخرون يخضبون بالصفرة ، وروي عن علي ، وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم ، وبعضهم بالزعفران ، وبعضهم بالسواد . وروي عن عثمان والحسن والحسين ابني علي وعقبة بن عامر رضي الله عنهم أجمعين ، وكذا ابن سيرين وأبي بردة وآخرين . يقال : صبغ يصبغ بضم الباء وفتحها . كان عقبة بن عامر يخضب بالسواد ويتمثل :

نسود أعلاها وتأبى أصولها ولا خير في أعلى إذا فسد الأصل

وكان سيدنا الحسن بن علي رضوان الله عليهما يخضب بالسواد ويتمثل :

نسود أعلاها وتأبى أصولها     فيا ليت ما يسود منها هو الأصل

وقال آخر :

يا أيها الرجل المسود شيبه     كيما يعد به من الشبان
أقصر فلو سودت كل حمامة     بيضاء ما عدت من الغربان

وما أحسن قول الإمام أبي محمد جعفر السراج الحنبلي صاحب كتاب مصارع العشاق :

ومدع شرخ شباب وقد     عممه الشيب على وفرته
يخضب بالوسمة عثنونه     يكفيه أن يكذب في لحيته

.

[ ص: 419 ] وقال في القاموس : العثنون اللحية أو ما فضل منها بعد العارضين ونبت على الذقن وتحته سفلا ، أو هو طولها وشعرات طوال تحت حنك البعير . انتهى .

وفي الصحيحين عن عبد بن جريج قال لعبيد الله بن عمر رضي الله عنهما : { رأيتك تلبس النعال السبتية ، ورأيتك تصبغ بالصفرة ، فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي فيها شعر ويتوضأ فيها ، فأنا أحب أن ألبسها ، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ } .

وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال { أتي بأبي قحافة عام الفتح ورأسه ولحيته مثل الثغامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غيروا هذا بشيء وجنبوه السواد } .

وأخرج الإمام أحمد وابن حبان عن أنس رضي الله عنه قال { جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يديه ، فقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم : لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه تكرمة لأبي بكر فأسلم ورأسه ولحيته كالثغامة ، فقال : غيروهما وجنبوه السواد } قال قتادة : هو أول مخضوب في الإسلام .

وأخرج البيهقي بسند جيد قوي عن وهب قال : أخبرني ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر رضي الله عنهما { أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ بيد أبي قحافة فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غيروه ولا تقربوه سوادا } .

وأخرج الإمام أحمد والطبراني برجال ثقات ومحمد بن عمر والبيهقي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت { لما كان عام الفتح وذكرت الحديث إلى أن قالت : فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد خرج أبو بكر بأبيه رضي الله عنهما يقوده ، وكان رأس أبي قحافة ثغامة ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله هو أحق [ ص: 420 ] أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه ، فأجلسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال : أسلم لتسلم فأسلم } الحديث . قال في السيرة الشامية كغيره : الثغامة بثاء مثلثة مفتوحة فغين معجمة : شجرة إذا يبست ابيضت أغصانها يشبه بها الشيب . .

التالي السابق


الخدمات العلمية