الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا بأس شرعا أن يطبك مسلم وتشكو الذي تلقى وبالحمد فابتدى

( ولا بأس ) أي لا حرج ( شرعا ) أي في الشرع ( أن يطبك ) أي أن يداويك طبيب ( مسلم ) ثقة . قال في الآداب الكبرى : يباح التداوي وتركه أفضل نصا . قال في رواية المروذي : العلاج رخصة وتركه درجة أعلى منه . ويأتي في النظم محترز قوله مسلم أنه يكره استطبابه ذميا .

مطلب : في شكاية المريض ما يجده من الوجع

( وتشكو ) الواو ابتدائية وليست عاطفية على أن يطبك ; لأن الفعل مرفوع لا منصوب أو عاطفة وعدم فتحه الواو ضرورة ( الذي تلقا ) هـ من النصب والوجع والوصب والعي واللغب ( و ) إذا فعلت ذلك من الشكاية فليكن على سبيل الإخبار والحكاية لا على سبيل التضجر والتبرم والتسخط والتألم و ( بالحمد ) لله جل شأنه الذي خلقك من الماء المهين وخصك بالعقل واليقين ( فابتدي ) قبل أن تفوه بالشكاية والإخبار عما تجد من الألم والشكاية بأن تقول الحمد لله أجد كذا وكذا ، والحمد لله بي الشيء الفلاني من الأذى .

قال الإمام ابن مفلح في فروعه : ويخبر بما يجده بلا شكوى . وكان أحمد رضي الله عنه يحمد الله أولا لخبر ابن مسعود إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك متفق عليه ، وقال صاحب المحرر : يخبر بما يجده لغرض صحيح لا لقصد شكوى . واحتج الإمام أحمد رضي الله عنه { بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قالت وارأساه } . واحتج ابن المبارك رضي الله عنه بقول [ ص: 455 ] ابن مسعود رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم { إنك لتوعك وعكا شديدا ، قال أجل كما يوعك رجلان منكم } متفق عليه .

وفي فنون الإمام بن عقيل قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } يدل على جواز الاستراحة إلى نوع من الشكوى عند إمساس البلوى . قال ونظيره { يا أسفى على يوسف } . { مسني الضر } . { ما زالت أكلة خيبر تعاودني } .

وفي تفسير ابن الجوزي في الآية الأولى هذا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من الأذى والتعب ولا يكون ذلك شكوى . وقال ابن الجوزي أيضا : شكوى المريض مخرجة من التوكل . وقد كانوا يكرهون أنين المريض ; لأنه يترجم عن الشكوى ، ثم احتج بقول رجل للإمام أحمد رضي الله عنه كيف تجدك يا أبا عبد الله ؟ قال بخير في عافية ، فقال له حممت البارحة ، قال إذا قلت لك أنا في عافية فحسبك لا تخرجني إلى ما أكره ووصف المريض ما يجده للطبيب لا يضره ، والنص المذكور لا حجة له فيه إنما يدل لما قاله هو وغيره إذا كانت المصيبة مما يمكن كتمها فكتمانها من أعمال الله الخفية . قال في الفروع : ولهذا ذكر شيخنا يعني شيخ الإسلام بن تيمية رضي الله عنه أن عمل القلب من التوكل وغيره واجب باتفاق الأئمة ، وأن الصبر واجب بالاتفاق قال والصبر لا تنافيه الشكوى . قال والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق والشكوى إلى الخالق لا تنافيه ، بل شكواه إلى الخالق مطلوبة . وقد نقل عبد الله في أنين المريض أرجو أنه لا يكون شكوى ، لكنه اشتكى إلى الله . قلت أنين المريض تارة يكون عن تبرم وتضجر فيكره ، وتارة يكون عن تسخط بالمقدور فيحرم فيما يظهر ، وتارة يكون لأجل ما يجد ويجد به نوع استراحة بقطع النظر عن التضجر والتبرم فيباح ، وتارة يكون عن ذل بين يدي رب العالمين وانكسار وخضوع وافتقار ومسكنة واحتقار مع حسم مادة العون إلا من بابه والشفاء إلا من عنده ، والعافية إلا من كرمه . فهذا لا يكره فيما يظهر بل يندب إليه ، وإليه الإشارة في حديث وإن لم يثبت { المريض أنينه تسبيح ، وصياحه تكبير ، ونفسه صدقة . ونومه عبادة ، ونقله من جنب إلى جنب جهاد في سبيل الله } قال الحافظ ابن حجر : ليس بثابت والله أعلم .

[ ص: 456 ] واقتصر الإمام الحافظ ابن الجوزي على قول الزجاج : إن الصبر الجميل لا جزع فيه ولا شكوى إلى الناس ، وأجاب عن قوله { يا أسفى على يوسف } بوجهين :

أحدهما : أنه شكا إلى الله لا منه ، واختاره ابن الأنباري وهو من أصحابنا .

والثاني : أنه أراد به الدعاء ، فالمعنى يا رب ارحم أسفي على يوسف .

وقال في قوله { : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } إن قيل أين الصبر وهذا لفظ الشكوى ، فالجواب أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ، وإنما المذموم الشكوى إلى الخلق ، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } قال سفيان بن عيينة وكذلك من شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله لم يكن ذلك جزعا ألم تسمع { قول النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أجدني مغموما وأجدني مكروبا } وقوله { بل أنا وارأساه } هذا سياق ما ذكره ابن الجوزي ، وذكره عنه في الفروع .

وقال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه شرح منازل السائرين : وقد أمر الله سبحانه في كتابه بالصبر الجميل الذي لا شكوى معه ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم قال وفي أثر إسرائيلي : أوحى الله إلى نبي من أنبيائه أنزلت بعبدي بلائي فدعاني فماطلته بالإجابة ، فشكاني ، فقلت عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك . ثم قال والشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر ، فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل ، والنبي إذا وعد لا يخلف ، ثم قال { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } وكذلك أيوب أخبر الله عنه أنه وجده صابرا مع قوله { مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } وإنما ينافي الصبر شكوى الله لا الشكوى إليه ، كما رأى بعضهم رجلا يشكو إلى آخر فاقة وضرورة ، فقال يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ، ثم أنشده :

    وإذا عراك بلية فاصبر لها
صبر الكريم فإنه بك أعلم     وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم



( تنبيه ) : قال في الآداب الكبرى : ينبغي أن يقال طبيب لا حكيم لاستعمال الشارع . قال الجوهري : الحكيم العالم وصاحب الحكمة ، والحكيم المتقن للأمور ، وقد حكم أي صار حكيما . قال في الآداب : والطبيب يتناول لغة من يطب الآدمي والحيوان وغيرهما ، كما يتناول الطبايعي والكحال [ ص: 457 ] والجرائحي وأنواعه .

والطبيب الحاذق من يراعي نوع المرض وسببه ، وقوة المريض هل تقاوم المرض فإن قاومته تركه ، ومزاج البدن الطبيعي ما هو ، والمزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي ، وسن المريض وبلده وعادته وما يليق بالوقت الحاضر من فصول السنة ، وحال الهواء وقت المرض ، والدواء وقوته وقوة المريض وإزالة العلة مع أمن حدوث أصعب منها . انتهى . .

التالي السابق


الخدمات العلمية