الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 231 ] 443 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة ( ص ) هل فيها سجدة أم لا .

2802 - حدثنا يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عياض بن عبد الله بن سعد ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في ( ص ) .

فتأملنا هذا الحديث فوجدناه مختصرا من حديث فيه معنى لا يوجب ما اختصر هذا الحديث عليه .

2803 - وهو ما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن ابن أبي هلال ، عن عياض بن عبد الله بن سعد ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ص ) ، وهو على المنبر ، فلما بلغ السجدة ، نزل فسجد وسجد الناس [ ص: 232 ] معه ، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تهيؤوا - أو كلمة نحوها - للسجود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي توبة نبي ، ولكن رأيتكم تهيأتم - أو تشزنتم ، أو كلمة نحوها - للسجود ، فنزل ، وسجدوا .

فكان في هذا الحديث إخبار أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها عند تلاوته إياها في البدء ، ثم تلاها بعد ذلك فتهيأ الناس للسجود فيها مع سجوده فيها ، فأخبرهم أنها سجدة شكر من نبي عند توبة الله عليه ، أي أنها ليست من عزائم السجود ، وأنها إنما هي لمعنى كان إلى ذلك النبي دونهم .

وعقلنا بذلك أنه إذا كان من الله عز وجل إلى أحدهم ما هو من جنس ذلك كان مباحا له السجود عنده ، وفي ذلك ما قد دل على إباحة السجود للشكر ، كما كان محمد بن الحسن والشافعي يقولانه في ذلك .

وفي ذلك ما قد دل أن من السجود ما هو عزيمة لا بد من السجود ، وأن منها ما هو ليس كذلك .

فالتمسنا ذلك هل نجده في شيء مما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو عن أحد من أصحابه رضوان الله عليهم . [ ص: 233 ]

فوجدنا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر ، عن علي رضي الله عنه قال : إن عزائم السجود : الم تنـزيل ، و حم ، والنجم ، و اقرأ باسم ربك .

ووجدنا حسين بن نصر قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، ثم ذكر بإسناده مثله .

وهذا من علي فلم يقله استنباطا ، ولكنه قد قاله ما قد علمه بما هو فوق الاستنباط ، فدل ذلك إذا كان من السجود عزائم أن معها الوجوب ، وأن ما كان منها لا عزيمة معه فتاليه وسامعه بالخيار بين السجود فيه وبين ترك ذلك ، وقد كان أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله يذهبون إلى أن سجود القرآن الذي هو السجود عندهم ، وهو أربع عشرة سجدة ، منها ( ص ) واجبة ، وكان مالك بن أنس فيما حكاه عنه عبد الرحمن بن القاسم يقول في سجود القرآن : إنها عزائم ، وإنها إحدى عشر ، فيها سجدة ( ص ) ، وكان أبو حنيفة ومالك جميعا وأصحابهما لا يعدون في سورة الحج إلا [ ص: 234 ] سجدة واحدة ، وهي التي في أولها وكان الشافعي فيما حكى لنا المزني عنه يذهب إلى أنها أربعة عشرة سجدة سوى ( ص ) ويجعل في الحج سجدتين سجدة في أولها وسجدة في آخرها .

وما قد رويناه مما قد دل عليه ما رواه أبو سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ذكرنا ، ومما قد رويناه عن علي رضي الله عنه ، مما قد شد ذلك أولى مما قالوه جميعا ، فتكون عزائم السجود التي ذكرها علي هي التي لا بد من الإتيان بها ، وما سواها من سجود القرآن بخلاف ذلك ، ويكون من سمعها أو من تلاها له السجود فيها ، وله ترك ذلك ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا مما يدخل في هذا الباب

ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن مجاهد قال : سئل ابن عباس عن السجدة في ( ص ) ، فقال : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .

وما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أنبأنا العوام بن حوشب عن مجاهد ، فذكر مثله وزاد : فكان ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به .

[ ص: 235 ] وما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حصين ، والعوام ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، ثم ذكر مثله .

وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن العوام ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سجد في ( ص ) ، وقال : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فكان وجه ذلك عندنا - والله أعلم - أن يقتدى به في أن يسجد في مثل ما كان من داود صلى الله عليه وسلم السجود عنده من الشكر ، وفي ذلك ما قد دل على موافقة ابن عباس عليا رضي الله عنه فيما رويناه عنه من ذلك ، والله نسأله التوفيق .

وقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه سجد فيها أيضا .

كما حدثنا عبيد بن رجال ، قال : حدثنا أبو مصعب الزهري ، قال : [ ص: 236 ] أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن السائب بن يزيد أنه رأى عثمان رضي الله عنه يسجد في ( ص ) .

وكما حدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا أبو مروان العثماني ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، ثم ذكر بإسناده مثله .

قال أبو جعفر : وكان ذلك عندنا محتملا أن يكون قصد به إلى الشكر لله - عز وجل - فيما كان منه إلى نبيه داود صلى الله عليه وسلم من توبته عليه ، ويكون حكمها عنده أن لا سجود فيها إلا لمن قصد إلى السجود فيها لهذا المعنى ، ويكون حكمها خلاف حكم سائر سجود القرآن ، ويحتمل أن يكون سجدها كما يسجد عند تلاوته سجود القرآن سواها لا لهذا المعنى الذي بدأنا بذكره من هذين الاحتمالين .

وقد وجدنا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيها [ ص: 237 ] ما قد حدثنا فهد ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي ابن عمر رضي الله عنهما : أتسجد في ( ص ) ؟ قلت : لا ، قال : فاسجد فيها فإن الله عز وجل يقول : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، وكان هذا مما قد يحتمل أن يكون أراد به الاقتداء بداود صلى الله عليه وسلم ، والسجود فيها لما سجدها داود صلى الله عليه وسلم لمثله ، لا لأنها تسجد لتلاوة خاصة ، كما يسجد غيرها من سجود القرآن ، وبالله التوفيق .

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها من سجود القرآن ، كما حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا خالد ، عن أبي العريان المجاشعي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وذكر سجود القرآن ، فذكر منها ( ص ) .

[ ص: 238 ] قال أبو جعفر : ففي هذا ما قد دل أن ابن عباس جعلها كغيرها من سجود القرآن ، وأنها تسجد لتلاوة ، لا لما سواها كما يسجد غيرها .

ثم وجدنا عن ابن عباس أيضا ما يدل أنها ليست من عزائم القرآن .

2804 - كما حدثنا إسماعيل بن إسحاق الكوفي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ليس ( ص ) من عزائم سجود القرآن ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بها فسجد فيها ، فدل ذلك أن السجود به فيها عنده بخلاف السجود فيما سواها من سجود القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية