الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 258 ] 446 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : اللحد لنا ، والشق لغيرنا ، أو لأهل الكتاب .

2828 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عامر العقدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان ، عن زاذان ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللحد لنا ، والشق لغيرنا .

[ ص: 259 ]

2829 - وحدثنا أحمد بن الحسن الكوفي ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن زاذان ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللحد لنا ، والشق لأهل الكتاب .

2830 - وحدثنا ابن أبي داود اللاحقي ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا الحجاج بن أرطاة ، قال : حدثنا عثمان البجلي ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله قال : أسلم أعرابي فبينا هو يسير إذ دخل خف بعيره في جحر ضب ، فوقصه فمات ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما فعل الأعرابي ، فأخبر خبره ، فقال : رحمه الله ، عمل قليلا ، ويعمر طويلا ، اذهبوا به ، فاحفروا له ، قالوا : يا رسول الله ، نشق له أو نلحد ؟ فقال : الحدوا له ، اللحد لنا والشق لغيرنا .

[ ص: 260 ]

2831 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، قال : حدثنا قيس ، عن عثمان بن عمير ، عن زاذان ، عن جرير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحدوا ولا تشقوا ، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا .

قال أبو جعفر : فتأملنا قوله صلى الله عليه وسلم هذا ، فوجدناه محتملا أن يكون اللحد لنا ، أي : أنه الذي نعرفه ؛ لأن العرب لم تكن تعرف غيره ، والشق لأهل الكتاب ، أي لأنه الذي كانوا يستعملونه لا يعرفون غيره ، قد كانت لهم أنبياء صلوات الله عليهم ، وكانوا في أيامهم على ذلك ، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء بقوله عز وجل : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، فكان عليه صلى الله عليه وسلم الاقتداء بهم حتى ينسخ الله عز وجل له شريعتهم بما نسخها به ، فصار اللحد والشق جميعا من سنن المسلمين ، إذ لم ينهوا عن واحد منها غير أن اللحد أولاهما ؛ لأنه الذي اختاره الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فألحد له ولم يشق له .

ومما يدل على إباحة الشق وأنه لم يلحقه نهي ما قد روي مما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته .

2832 - كما حدثنا محمد بن علي بن داود ، وأبو أمية قالا : حدثنا محمد بن عبد الله البينوني ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن حميد ، عن أنس قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد ، ورجل [ ص: 261 ] يضرح ، فقالوا : نستخير ربنا - عز وجل - ، ونرسل إليهما فأيهما سبق تركناه ، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد ، فلحدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

2833 - وكما حدثنا بحر بن نصر ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا المبارك ، ثم ذكر بإسناده مثله .

ففي ذلك ما قد دل على أن اللحد والشق قد كانا يستعملان جميعا ، وبان بما اختاره الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من اللحد على الشق ، فضل اللحد على الشق .

وإن قال قائل : ففيما قد رويتم في خبر الأعرابي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا له : أنلحد له أو نشق ؟ فقال : الحدوا له ، وفي حديث قيس الذي قد رويتموه أيضا : ولا تشقوا ، فيكون ذلك على النهي عن الشق .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل أن ذلك لم يكن على النهي عن الشق ؛ لأنه مكروه ، ولكنه على النهي عن ترك الأفضل ، [ ص: 262 ] والأخذ بما هو دونه ، فمما قد روي بما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم من اختيارهم له اللحد على غيره .

2834 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عامر العقدي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد ، عن عامر بن سعد أن سعدا رضي الله عنه قال : الحدوا لي لحدا ، وانصبوا علي نصبا ، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم .

2835 - وما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر المخرمي ، ثم ذكر بإسناده مثله .

2836 - وما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي عمران الجوني ، عن أبي عسيب قال : لما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحده ، قال [ ص: 263 ] المغيرة : إنه قد بقي علي شيء من قبل قدميه لم يصلحوه ، قال : أدخل فأصلحه ، فأدخل يده فمس قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أهيلوا علي التراب فأهالوه عليه حتى بلغ نصف ساقيه ثم خرج ، فقال : أنا أحدثكم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

2837 - وما قد حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أبي عسيم ، قال : شهد ذلك ، ثم ذكر هذا الحديث .

2838 - وما قد حدثنا إسماعيل بن حمدويه البيكندي ، قال : حدثنا ابن الحماني ، قال : حدثنا أبو بردة ، ومنزله في بني حجر ، قال : حدثنا علقمة بن مرثد ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من قبل القبلة ، وألحد له ، ونصب عليه اللبن نصبا .

[ ص: 264 ]

2839 - وما قد حدثنا فهد ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ابن الأصبهاني ، قال : أنبأنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : كنت فيمن حفر قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سوي عليه لحده ألفيت شيئا في القبر ، فنزلت فوضعت يدي على اللحد ، فأنا آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

2840 - وما قد حدثنا علي بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا يحيى بن معين ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن أبيه إسحاق بن يسار ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : خرجت مع عمي علي بن أبي طالب رضي الله عنه معتمرا في زمن عثمان رضي الله عنه ، فلما قدم مكة نزل على أم هانئ بنت أبي طالب ، فلما فرغ من طوافه وحلق رأسه دخل عليه رهط من أهل العراق ، فقالوا : إن المغيرة بن شعبة يحدث أنه آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كذب ، آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن عباس .

[ ص: 265 ]

2841 - وما قد حدثنا فهد ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ولعمر رضي الله عنهما .

2842 - وما قد حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا عبد الله بن نافع ، عن عاصم بن عمر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : لحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأبي بكر ، ولعمر رضي الله عنهما .

قال أبو جعفر : فدل ما ذكرنا على أن الشق غير منهي عنه ، وإن كان اللحد أفضل منه لاختيار الله - عز وجل - إياه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قد كان مثل ذلك لأهل بدر أن الله عتبهم مما اختاره لهم من اللحد على الشق .

[ ص: 266 ]

2843 - كما حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا شجاع بن الوليد ، قال : حدثنا زياد بن خيثمة ، قال : حدثني إسماعيل السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : دخل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة : العباس ، وعلي ، والفضل ، رضي الله عنهم ، وسوى لحده رجل من الأنصار هو الذي سوى لحود قبور الشهداء يوم بدر .

وقد روي عن ابن عباس حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافق لحديث جرير في اللحد والشق .

2844 - وهو ما قد حدثنا فهد ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ابن الأصبهاني ، قال : حدثنا حكام بن سلم الرازي ، قال : سمعت علي بن عبد الأعلى يذكر عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللحد لنا والشق لغيرنا .

[ ص: 267 ] وقد زعم بعض أهل العلم بالأسانيد أن عبد الأعلى صاحب هذا الحديث الذي حدث به عنه ابنه ، هو عبد الأعلى بن أبي جميلة ، فإن كان كذلك فمقداره في العلم جليل .

وقد روي عن أبي الدرداء في الشق ما قد حدثنا فهد بن سليمان ، وهارون بن كامل جميعا قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء أنه سئل عن الشق في القبر ، فلم ير به بأسا .

[ ص: 268 ] ففيما قد رويناه عن أبي الدرداء في هذا ما قد وافق ما ذهبنا إليه في هذا الباب من الشق في هذا الحديث من إباحته ، وإن كان اللحد أفضل منه ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية