الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 438 ] 471 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البضع ما هو ؟

2987 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا معاوية بن عمرو الأزدي ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أهل أوثان ، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر رضي الله عنه ، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم سيهزمون ، فذكر ذلك أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن ظهروا كان لك كذا وكذا ، وإن ظهرنا كان لك كذا وكذا ، فجعل بينهم أجلا خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ألا جعلته دون البضع ، قال : دون العشرة .

قال : وقال سعيد بن جبير : والبضع ما دون العشر ، قال : فظهرت الروم بعد ذلك ، قال : فذلك قوله - عز وجل - : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ، قال : فغلبت الروم ، ثم غلبت بعد ، فقال الله - عز وجل - : لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .

[ ص: 439 ] قال أبو إسحاق : قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر .

قال أبو جعفر : وفي إسناد هذا الحديث إسقاط سفيان بين أبي إسحاق الفزاري وبين حبيب بن أبي عمرة ، فاحتمل أن يكون ذلك من أبي أمية ، واحتمل أن يكون مني ، غير أن ما عقب به أبو إسحاق هذا الحديث من قوله : قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر ، يدل أن بين أبي إسحاق وبين حبيب في إسناده سفيان .

2988 - وحدثنا عبيد بن رجال ، ومحمد بن سنان الشيرزي قالا : حدثنا المسيب بن واضح ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن [ ص: 440 ] سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ثم ذكرا مثله ، فتحققنا بذلك دخول سفيان في إسناد هذا الحديث بين أبي إسحاق وبين حبيب بن أبي عمرة .

2989 - ووجدنا يحيى بن عثمان قد حدثنا ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : حدثنا يونس بن يزيد ، عن الزهري قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما نزلت الم غلبت الروم ، لقي أبو بكر رضي الله عنه رجالا من المشركين ، فقال لهم : إن أهل الكتاب سيغلبون على فارس ، قالوا : في كم ؟ قال : في بضع سنين ، قال : ثم خاطروا بينهم خطرا ، وذلك قبل أن يحرم القمار عليهم ، فجاء أبو بكر رضي الله عنه ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما دون العشر من البضع ، فكان ظهور فارس على الروم لسبع سنين ، ثم أظهر الله الروم على فارس زمن الحديبية ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب ، وكان ظهور المسلمين على المشركين بعد الحديبية .

[ ص: 441 ] قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ، فإن ما دون العشر من البضع ، فعقلنا بذلك أن نهاية البضع دون العشر ، واحتجنا إلى الوقوف على مقدار قليل البضع ما هو .

2990 - فوجدنا محمد بن علي بن زيد المكي قد حدثنا ، قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت : الم غلبت الروم ، ناحب أبو بكر قريشا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلا احتطت ، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع .

2991 - ووجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : أنبأنا بشر بن هلال البصري ، قال محمد بن خالد ، يعني : ابن عثمة ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي ، قال : حدثنا الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر [ ص: 442 ] في مناحبته : الم غلبت الروم : ألا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع .

حدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا محمد بن سليمان لوين ، قال : حدثنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن نيار بن مكرم ، وكانت له صحبة ، قال : لما نزلت : الم غلبت الروم ، خرج بها أبو بكر إلى المشركين ، فقالوا : هذا كلام صاحبك ، قال : الله أنزل هذا ، قال : وكانت فارس قد غلبت على الروم ، فاتخذوهم شبه العبيد ، وكان المشركون يكرهون أن يغلب الروم على فارس ؛ لأنهم أهل جحد ، وتكذيب بالبعث ، وكان المسلمون يحبون أن يغلب الروم فارسا ؛ لأنهم أهل كتاب ، وتصديق بالبعث ، فقالوا لأبي بكر : نبايعك على أن الروم لا تغلب فارسا ، قال أبو بكر رضي الله عنه : البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فقالوا : الوسط من ذلك ست لا أقل ، ولا أكثر ، فوضعوا الرهان - وذلك قبل أن يحرم الرهان - فانقلب أبو بكر رضي الله عنه إلى أصحابه ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا : بئس ما صنعت ألا أقررتها على ما قال الله - عز وجل - ، لو شاء الله أن يقول ستا لقال ، فلما كانت سنة ست لم تظهر الروم على فارس ، فأخذوا الرهان ، فلما كانت سنة سبع ظهرت الروم على فارس ، فذلك قوله عز وجل : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .

[ ص: 443 ] قال أبو جعفر : ففي الحديث الأول من هذين الحديثين من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : بأن البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، وفي الحديث الثاني منهما من كلام أبي بكر رضي الله عنه : " البضع ما بين الثلاث إلى التسع " ، فعقلنا بذلك أن البضع من الثلاث لا أقل منها ، إلى التسع لا أكثر منه ، ولم نجد في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه غير ما قد رويناه في هذا الباب ، وكان ما في حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس من حديثي محمد بن علي بن زيد ، وأحمد بن شعيب من ذكر قليل البضع قد دلنا أن المراد بما في حديث عبيد الله من حديث يحيى بن عثمان ، عن نعيم ، فإن ما دون العشر من البضع يراد به مما هو ثلاث إلى ما هو أكثر منها إلى التسع حتى تصح هذه الآثار ، ولا تضاد بعضها بعضا ، [ ص: 444 ] ثم طلبنا البضع في كلام العرب ما هو ، فوجدنا ولادا النحوي قد حدثنا ، قال : حدثنا المصادري ، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال : البضع ما بين الواحد إلى الأربعة ، ووجدنا الخليل بن أحمد وغيره من أهل اللغة قد خالفوه في ذلك وقالوا : البضع من العدد ما بين الثلاث إلى العشرة ، قالوا جميعا : إن التأنيث والتذكير يدخلان في البضع ، فأما في التأنيث فمنه قوله - عز وجل - : سيغلبون في بضع سنين ، وقوله عز وجل : فلبث في السجن بضع سنين ، وأما في التذكير فمنه قولهم : بضعة أيام وبضعة دراهم .

فعقلنا بذلك أن البضع له عدد يختلف فيه التذكير والتأنيث جميعا على ما ذكرنا ، ولا يكون ذلك من العدد في أقل من ثلاثة ، وإذا وجب أن يكون ذلك كذلك عقلنا به أن أقل البضع ثلاثة لا أقل منها ، إلى تسعة لا أكثر منها ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية