الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 71 ] 485 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير حديث جابر بن عبد الله في لحوم الخيل من كراهة ومن إباحة

3065 - حدثنا أبو القاسم هشام بن محمد بن قرة بن أبي خليفة الحميري ، قال : حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي ، قال :

حدثنا محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي الكوفي المعروف بالسوسي ، قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن هشام بن عروة ، عن امرأته فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنها ، قالت : انتحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه .

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث إخبار أسماء بما أخبرت به فيه [ ص: 72 ] مما كان منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي ذلك حجة لمن أباح لحوم الخيل في إباحته أكلها .

وقد روي عن خالد بن الوليد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن أكلها .

3066 - كما قد حدثنا الربيع بن سليمان الأزدي الجيزي ، قال : حدثنا أبو نعيم ( ح ) وكما حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي أبو زرعة ، قال : حدثنا يزيد بن عبد ربه وخالد بن خلي قالوا : حدثنا بقية بن الوليد ، عن ثور بن يزيد ، عن صالح بن يحيى بن المقدام ، عن أبيه ، عن جده ، عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير .

[ ص: 73 ] ففي هذا الحديث النهي عن أكل لحوم الخيل ، فأما أكثر الآثار المروية في لحوم الخيل والصحيح منها ، ما روي في إباحة أكل لحومها مما قد رويناه في هذا الباب ، ومما قد رويناه في الباب الذي قبله من كتابنا هذا .

وإن رجعنا إلى ما يوجبه النظر في ذلك ، كان هو النهي عن أكل لحومها ، وذلك أنا وجدنا الأنعام المباح أكل لحومها ذوات أخفاف وذوات أظلاف ، ووجدنا الحمر الأهلية المنهي عن أكل لحومها ، والبغال المنهي عن أكل لحومها ذوات حوافر ، وكانت الخيل المختلف في أكل لحومها ذوات حوافر ، فكانت ذوات الحوافر المختلف في أكل لحومها بذوات الحوافر المنهي عن أكل لحومها أشبه منها بذوات الأخفاف وذوات الأظلاف المباح أكل لحومها .

وقد كان أبو حنيفة ومالك بن أنس يذهبان إلى هذا القول .

كما قد حدثنا محمد بن العباس ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا محمد بن الحسن ، قال : حدثنا يعقوب ، عن أبي حنيفة ، قال : أكره أكل لحم الفرس .

وكما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أنس ، قال : أحسن ما سمعت في الخيل [ ص: 74 ] والبغال والحمير أنها لا تؤكل ؛ لأن الله عز وجل قال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وقال تبارك وتعالى في الأنعام : لتركبوا منها ومنها تأكلون ، وقال تبارك وتعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .

قال مالك : فذكر الله عز وجل الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة ، وذكر الأنعام للركوب والأكل منها ، قال مالك : وذلك الأمر عندنا .

[ ص: 75 ] فأما أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، فكانا يذهبان في ذلك إلى إباحة أكل لحومها
.

كما قد حدثنا محمد بن العباس ، قال : حدثنا علي ، قال : حدثنا محمد ، فذكر ما قد حكيناه عنه أيضا .

فتأملنا ما حكي عن مالك مما احتج به في كراهية لحوم الخيل من أن الله عز وجل إنما خلقها للركوب والزينة ، هل ذلك مما يمنع أكل لحومها أم لا ؟ فوجدنا الله عز وجل قد قال في كتابه : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، فلم يكن ذلك مانعا من أن يكون أيضا قد خلقهم لغير ذلك ، إذ كان الله عز وجل قد قال : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، فعقلنا بذلك أنهم مخلوقون لما ذكر خلقه إياهم في كل واحدة من هاتين الآيتين .

ولما كان ذلك كذلك ، كان مثله قوله جل وعز : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة لا يمنع أن يكون خلقها لذلك ، ولما سواه مما أباحه من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم من إطعامه الناس لحومها .

ومثل ذلك ما قد وجدناه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدل على هذا المعنى أيضا .

3067 - كما قد حدثنا يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن [ ص: 76 ] أنهما سمعا أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها ، التفتت إليه البقرة ، فقالت : إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث ، فقال الناس : سبحان الله تعجبا ، وفزعوا : بقرة تتكلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر .

قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث الإخبار من البقرة التي أنطقها الله عز وجل بما أنطقها به ، ليكون ذلك منها مما يؤمن به المؤمنون ، وكان الذي نطقت به حقا ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صدق [ ص: 77 ] وآمن به ، وأخبر أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يؤمنان به ، ولما كان ذلك كذلك وكانت مخلوقة لما خلقت له في هذا الحديث مخلوقة مع ذلك لأكل لحومها لما ذكره الله عز وجل مما تلاه مالك رحمه الله في الأنعام المأكولة ، كان مثل ذلك الخيل ، فهي مخلوقة لما ذكرت له في الآية التي تلاها فيه من الركوب والزينة ، ومخلوقة لما سوى ذلك من أكل لحومها التي أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه .

وليس ما قد روينا من حديث خالد بن الوليد مما يعارض به ما رويناه في ضده عن جابر بن عبد الله في الباب الذي قبل هذا الباب ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية