الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 176 ] 501 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلى مكة : هل هو حرمته في الأحوال كلها ، أو على حرمته في حال دون حال وبفعل دون فعل ؟

قال أبو جعفر : اختلف أهل العلم في حشيش مكة ، وفي ما سواه مما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصده ، وفي إعلافه الإبل وغيرها ، فقالوا فيه ثلاثة أقوال نحن ذاكروها في هذا الباب إن شاء الله ، لا قول لهم في ذلك سواها .

كما حدثنا جعفر بن أحمد بن الوليد الأسلمي ، قال : حدثنا بشر بن الوليد ، قال : سمعت أبا يوسف ، قال : سألت أبا حنيفة عن حشيش الحرم ، فقال : لا يرعى ولا يحتش ، وسألت ابن أبي ليلى ، فقال : لا بأس أن يرعى وأن يحتش ، وسألت الحجاج بن أرطاة ، فقال : سألت عطاء بن أبي رباح عنه ، فقال : لا بأس أن يرعى ، ولا يحتش .

قال أبو يوسف : وقول عطاء في هذا أحب إلي .

[ ص: 177 ] ولما اختلفوا في ذلك هذا الاختلاف ، طلبنا الأولى مما قالوه في ذلك مما هو من أقوالهم هذه .

فوجدنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري قد حدثنا ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ( ح ) وحدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا الحجاج بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج وعبد الملك ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، أن عمر بن الخطاب رأى رجلا يقطع من شجر الحرم ويعلفه بعيرا له ، قال : فقال : علي بالرجل ، فأتي به ، فقال : يا عبد الله ، أما علمت أن مكة حرام لا يعضد عضاهها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمعرف ؟ فقال : يا أمير المؤمنين والله ما حملني على ذلك إلا أن معي نضوا لي ، فخشيت أن لا يبلغني أهلي ، وما معي زاد ولا نفقة ، فرق عليه بعدما هم به ، وأمر له ببعير من إبل الصدقة موقرا صحيحا ، فأعطاه إياه وقال : لا تعودن أن تقطع من شجر الحرم شيئا .

[ ص: 178 ] وقد روينا في الباب الذي قبل هذا الباب منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختلاء خلى مكة ، فذهب قوم إلى أن الاختلاء ما أخذ باليد دون ما سواه من إعلافه الإبل على ما قد رويناه في هذا الباب عن عطاء ، وعلى ما ذكرنا عن أبي يوسف من موافقته عليه .

وذهب آخرون إلى أن ذلك ممنوع منه ، لأن تلك الأشياء محرمة في نفسها ، فجميع الأفعال التي تفعل فيها من رعي لها ، ومن اختلاء لها ممنوع منه ، كما الصيد المحرم في نفسه حرام فيه الأشياء كلها لحرمته في نفسه ، وكان هذا القول عندنا أولى هذه الأقوال بالحق ؛ لأن عمر رضي الله عنه خاطب الرجل الذي رآه يرعى بعيره من شجر الحرم بما خاطبه به فيما قد ذكرناه في هذا الحديث ، فدل ذلك على حرمة الرعي فيه ، كما دل على حرمة الاختلاء منه .

وقد روى قوم حديثا في حرمة المدينة ، وفي المنع من الاختلاء من خلاها وفي أن لا يقطع شجرها إلا أن يعلف الرجل بعيره ، فاستدلوا بذلك على مثله من شجر مكة وخلاها .

3147 - وهو ما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا هدبة بن خالد ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أبي حسان [ ص: 179 ] أن عليا عليه السلام أخرج الصحيفة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت في قراب سيفه ، فإذا فيها : إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ؛ لا يختلى خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يقطع شجرها إلا أن يعلف رجل بعيره .

فاعتبرناه ، فوجدناه منقطع الإسناد ، وذلك أن أبا حسان لم يلق عليا رضي الله عنه ، وإنما الذي يحدثه من حديث علي هو مما أخذه عن عبيدة السلماني ومن مثله من أصحابه عنه .

ولما كان ذلك كذلك ، كان ما رويناه في هذا الباب مما يخالفه [ ص: 180 ] عن عمر رضي الله عنه أولى منه ، لا سيما وقد كان ذلك من عمر رضي الله عنه بحضرة من سواه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكروا ذلك عليه ، ولم يخالفوه فيه ، فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه ، والله نسأله التوفيق .

ثم وجدنا هذا الحديث متصل الإسناد .

3148 - حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني إبراهيم - يعني ابن طهمان - ، عن الحجاج - يعني ابن الحجاج الأحول الباهلي - ، عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن الأشتر ، أنه حدثه عن علي رضي الله عنه ، ثم ذكر مثل حديث ابن أبي داود الذي ذكرناه في هذا الباب عن هدبة .

قال أبو جعفر : والحجاج هذا ، فإمام في الحديث محمود الرواية .

فقال قائل : فكيف يجوز أن يكون هذا الحديث متصل الإسناد ، وإنما ذكره أبو حسان عن الأشتر ، والأشتر كانت وفاته في أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وإذا انتفى أن يكون سمع من علي ، كان بأن يكون سمع من الأشتر أشد انتفاء .

[ ص: 181 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن أبا حسان قد ذكر في هذا الحديث عن الأشتر أنه حدثه به ، فحقق بذلك سماعه إياه منه ، وجاز أن يكون أن أبا حسان رأى الأشتر في حياة علي ، فحدثه بهذا الحديث عن علي ولم ير عليا أو رآه ولم يسمعه منه .

قال أبو جعفر : فكان هذا الحديث بعد ثبوته لا يجب به في خلى مكة مساواته خلى المدينة في هذا المعنى ؛ لأنه قد يحتمل أن يكون حكم كل واحد في هذا المعنى خلاف حكم الآخر ، كما حكمهما مختلف في حل دخول حرم المدينة بلا إحرام ، وحرمة دخول حرم مكة إلا بإحرام ، وكما حكمهما في قتل صيدهما مختلف ؛ لأن من قتل صيدا في حرم مكة جزاه ، ومن قتل صيدا في حرم المدينة لم يجزه ، وإذا كان حكم حرم كل واحدة منهما مختلفا فيما ذكرنا ، لم يكن منكرا أن يكون مختلفا في إعلاف الإبل من شجرهما ، فيكون حراما في شجر مكة ، ويكون حلالا في شجر حرم المدينة ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية