الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              1066 - حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قال : المنافقون فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلنا : يا أبا عبد الله ، وكيف ذاك ؟ قال : إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم وإن هؤلاء أعلنوه .

              قال الشيخ : وفرض الله الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها فليس من جوارحه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها فمنها قلبه الذي يعقل به ويتقي به ويفهم به وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره ، ومنها لسانه الذي ينطق به ومنها عيناه اللتان ينظر بهما وسمعه الذي يسمع به ويداه اللتان يبطش بهما ورجلاه اللتان يخطو بهما (وفرجه الذي الباءة . . . ) فليس من هذه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها بفرض من الله تعالى ينطق به الكتاب ويشهد به علينا . [ ص: 766 ] ففرض على القلب غير ما فرض على اللسان ، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين ، وفرض على العينين غير ما فرض على السمع ، وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين ، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج ، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه . وأما ما فرض على القلب فالإقرار والإيمان والمعرفة والتصديق والعقل والرضا والتسليم وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى من رسول أو كتاب . فأما ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة فقد ذكرناه في أول هذا الكتاب ونعيده هاهنا فمن ذلك قوله تعالى :

              إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا .

              وقال : ألا بذكر الله تطمئن القلوب .

              وقال : الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم .

              فذلك ما فرضه على القلب من الإقرار والمعرفة ، والتصديق وهو رأس الإيمان وهو عمله .

              وفرض على اللسان القول والتعبير عن القلب وما عقد عليه وأقر به . قال الله عز وجل :

              [ ص: 767 ] قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب .

              وقال : وقولوا للناس حسنا .

              فهذا ما فرض على اللسان من القول بما عقد عليه وذلك من الإيمان وهو عمل اللسان .

              وأما ما فرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله تعالى ، فمما فرض على السمع قوله تعالى :

              وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره .

              وقال : فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .

              وقال : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون .

              وقال : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه .

              وقال : وإذا مروا باللغو مروا كراما .

              [ ص: 768 ] فهذا ما فرض على السمع التنزه عن الاستماع إلى ما لا يحل له وهو عمل السمع وذلك من الإيمان .

              وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله وأن يغض بصره عما لا يحل له مما نهى الله عنه ، فقال تعالى :

              قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم .

              وفرض على الرجال والنساء أن لا ينظروا إلى ما لا يحل لهم وكل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فإنه من النظر .

              ثم أخبر تعالى ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية واحدة ، فقال تعالى :

              ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا

              فهذا ما فرض على العينين والسمع والبصر والفؤاد وهو عملهن وهو من الإيمان وفرض على الفرج أن لا يهتك ما حرم الله عليه ، فقال تعالى :

              والذين هم لفروجهم حافظون .

              وقال تعالى : والحافظين فروجهم والحافظات .

              [ ص: 769 ] ثم أخبر بمعصية السمع والبصر والفؤاد والأيدي والأرجل والجلود في آية واحدة ، فقال :

              وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم

              فعنى بالجلود الفروج فهذا ما فرض على الفروج من الإيمان وهو عمله وفرض على اليدين أن لا يبطش بهما فيما حرم الله عليهما وأن يبطش بهما فيما أمره الله تعالى به من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والوضوء للصلوات ، فقال :

              يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين .

              فهذا ما فرض على اليدين لأن الطهور نصف الإيمان وهو من عمل اليدين .

              وقال : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب .

              فهذا ما فرض على اليدين وصلة الرحم والضرب في سبيل الله ، وهو من الإيمان .

              وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما في شيء من معاصي الله وأن يستعملا فيما أمر الله تعالى من المشي إلى ما يرضيه ، فقال :

              [ ص: 770 ] ولا تمش في الأرض مرحا .

              وقال : واقصد في مشيك .

              وقال فيما شهدت به الأيدي والأرجل على أنفسهما يوم القيامة من تضييعها وتركها فرض الله عليها وتعديها ما حرمه عليها :

              اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون .

              فهذا ما فرض الله على اليدين والرجلين من العمل وهو من الإيمان .

              وفرض على الوجه السجود آناء الليل والنهار في مواقيت الصلوات ، فقال :

              يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا . . الآية .

              فهذه فريضة من الله تعالى جامعة على الوجه واليدين والرجلين . وقال في موضع آخر :

              وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا

              [ ص: 771 ] يعني بالمساجد ما سجد عليه ابن آدم في صلاته من الجبهة والأنف واليدين والرجلين والركبتين وصدور القدمين .

              وقال فيما فرض الله تعالى على الجوارح كلها من الصلاة والطهور وذلك أن الله تعالى سمى الصلاة إيمانا في كتابه وذلك أن الله تعالى لما صرف نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى بيت المقدس وأمره أن يصلي إلى الكعبة قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيتك صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ما حالها وما حالنا فيها وحال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا ناطقا ، فقال :

              وما كان الله ليضيع إيمانكم .

              يعني صلواتكم إلى بيت المقدس فسمى الله الصلاة إيمانا .

              فمن لقي الله حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عليه لقي الله مؤمنا مستكمل الإيمان ومن ضيع شيئا منها وتعدى ما أمر الله به فيها لقي الله تعالى ناقص الإيمان وهو في مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ومن جحد شيئا كان كافرا .

              قال الشيخ : فقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرحه في سنته وأعلمه أمته وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل وأن العمل من الإيمان ما قاله في سورة البقرة :

              [ ص: 772 ] ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .

              فانتظمت هذه الآية أوصاف الإيمان وشرائطه من القول والعمل والإخلاص .

              ولقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ عليه هذه الآية .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية