الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              1120 - حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر ، قال : حدثنا محمد بن [ ص: 834 ] إسماعيل الواسطي ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير :

              ولكن ليطمئن قلبي .

              قال : ليزداد يعني إيمانا .

              وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب .

              فلو لم يكونوا مؤمنين لما قال لهم : يا أيها الذين آمنوا . وإنما أراد بقوله دوموا على إيمانكم وازدادوا إيمانا بالله وطاعة واستكثروا من الأعمال الصالحة التي تزيد في إيمانكم وازدادوا يقينا وبصيرة ومعرفة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .

              وقد يقول الناس بعضهم لبعض مثل ذلك في كل فعل يمتد ويحتمل الازدياد فيه ، كقولك للرجل يأكل : كل ، تريد زد أكلك ، ولرجل يمشي : امش ، تريد أسرع في مشيتك ، ولرجل يصلي أو يقرأ : صل واقرأ ، تريد زد في صلاتك . ولما كان الإيمان له بداية بغير نهاية ، والأعمال الصالحة والأقوال الخالصة تزيد المؤمن إيمانا جاز أن يقال : يا أيها المؤمن آمن ، أي ازدد في إيمانك .

              ولا يجوز أن يقال ذلك في الأفعال المتناهية التي لا زيادة على نهايتها ، كما لا تقول للقائم : قم ، ولا لرجل رأيته جالسا : اجلس ، لأن ذلك فعل قد تناهى فلا مستزاد فيه ، فهذا يدل على زيادة الإيمان لأنه كلما ازداد بالله علما وله طاعة ومنه خوفا كان ذلك زائدا في إيمانه ، وبالمعرفة والعقول [ ص: 835 ] والفضائل في الأعمال والأخلاق والاستباق إلى الله تعالى بالأعمال الزاكية تفاضل الناس عند خالقهم وعلا بعضهم فوق بعض درجات . قال الله عز وجل :

              تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات .

              وقال عز وجل : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض .

              وقال : ولكل درجات مما عملوا .

              وقال : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى .

              وقال : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما .

              وقال : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان .

              [ ص: 836 ] وقال عز وجل : والسابقون السابقون أولئك المقربون .

              فقد علم أهل العلم والعقل أن السابق أفضل من المسبوق والتابع دون المتبوع وأن الله عز وجل لم يفضل الناس بعضهم على بعض بوثاقة الأجسام ولا بصباحة الوجه ولا بحسن الزي وكثرة الأموال ولو كانوا بذلك متفاضلين لما كانوا به عنده ممدوحين لأن ذلك ليس هو بهم ولا من فعلهم فعلمنا أن العلو في الدرجات والتفاضل في المنازل إنما هو بفضل الإيمان وقوة اليقين والمسابقة إليه بالأعمال الزاكية والنيات الصادقة من القلوب الطاهرة . قال الله تعالى :

              أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون .

              وقال عز وجل : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار .

              فهذا وأشباهه في كتاب الله يدل العقلاء على زيادة الإيمان ونقصانه ، وتفاضل المؤمنين بعضهم على بعض ، وعلوهم في الدرجات . وبمثل ذلك جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين . ولو كان الإيمان كله واحدا لا نقصان له ولا زيادة لم يكن لأحد على أحد فضل ولاستوت النعمة فيه ولا يستوي وبطل العقل الذي فضل الله به [ ص: 837 ] العقلاء وشرف به العلماء والحكماء وبإتمام الإيمان دخل الناس الجنة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون في الدرجات في الجنان عند الله وبالنقصان منه دخل المقصرون النار فنعوذ بالله من النار .

              وإن الإيمان درجات ومنازل يتفاضل بها المؤمنون عند الله ومتى تأمل متأمل وصف الله للمؤمنين وتفضيله بعضهم على بعض وكيف حزبهم إليه بالسباق علم أن الله قد سبق بين المؤمنين في الإيمان كما سبق بين الخيل في الرهان ثم قبلهم على درجاتهم إلى السبق إليه فجعل كل امرئ منهم على درجة سبقه لا ينقصهم فيها من حقه لا يتقدم مسبوق سابقا ولا مفضول فاضلا .

              وبذلك فضل الله أوائل هذه الأمة على أواخرها ولو لم يكن للسابقين بالإيمان فضل على المسبوقين للحق آخر هذه الأمة أولها في الفضل ولتقدمهم إذا لم يكن لمن سبق إلى الله فضل على من أبطأ عنه ولكن بدرجات الإيمان ، قدم السابقون وبالإبطاء عن الإيمان أخر المقصرون ، ولا تك قد تجد في الآخرين من المؤمنين من هو أكثر عملا وأشد اجتهادا وكذا من الأولين المهاجرين أكثر منهم صلاة وأكثر منهم صياما وأكثر منهم حجا وجهادا ، وأنفق مالا ولولا سوابق الإيمان وفضله لما فضل المؤمنون بعضهم بعضا ولكان الآخرون لكثرة العمل مقدمين على الأولين ، ولكن الله تعالى أبى أن يدرك أحد بآخر درجات الإيمان أولها ويؤخر من قدم الله بسبقه أو يقدم من أخر الله بإبطائه ألا ترى يا أخي رحمك الله كيف ندب الله المؤمنين إلى الاستباق إليه ، فقال تعالى :

              سابقوا إلى مغفرة من ربكم . . الآية .

              وقال : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . . الآية .

              [ ص: 838 ] فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجاتهم في السبق ، ثم ثنى بالأنصار على سبقهم ، ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان فوضع كل قوم على درجاتهم ومنازلهم عنده ثم ذكر ما فضل به أولياءه بعضهم على بعض فبدأ بالرسل والأنبياء فقال :

              تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض .

              وقال : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض .

              وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتأمل ذلك ، فقال تعالى :

              كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا .

              وقال تعالى : هم درجات عند الله .

              وقال تعالى : ويؤت كل ذي فضل فضله .

              وقال : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا .

              [ ص: 839 ] وقال : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .

              وقال : وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما .

              وقال : الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون .

              فهذه درجات الإيمان ومنازله تفاضل الناس بها عند الله واستبقوا إليه بالطاعة بها ، فالإيمان هو الطاعة وبذلك فضل الله المهاجرين والأنصار لأنهم أطاعوا الله ورسوله ولأنهم أسلموا من خوف الله وأسلم سائر الناس من خوف سيوفهم وفضل المهاجرين والأنصار بطواعيتهم لله ولرسوله وكذلك قال تعالى :

              من يطع الرسول فقد أطاع الله .

              وقال : وأطيعوا الله والرسول .

              وقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .

              وقال : ولا يعصينك في معروف

              يعني في سنن الرسول . [ ص: 840 ] وخلق الله الخلق لطاعته إلا من سبق عليه القول في كتابه بشقوته ، فقال : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .

              وقال : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض

              وقال : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة

              وقال : ائتيا طوعا أو كرها . . الآية .

              فالإيمان يا أخي - رحمك الله - هو القول ، والعمل هو الطاعة ، والقول تبع للطاعة ، والعمل والناس يتفاضلون فيه على حسب مقادير عقولهم ومعرفتهم بربهم وشدة اجتهادهم في السبق بالأعمال الصالحة إليه . وقد شرحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله بعضهم على بعض .

              من ذلك ما حدثناه :

              التالي السابق


              الخدمات العلمية