الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 329 ] 982 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أجاب به زيد بن أرقم ، والبراء بن عازب الأنصاريين ، فيما كانا سألاه عنه من ابتياعهما شيئا بنسيئة ، وشيئا بنقد ، وكلاهما مما لا يصلح فيه النساء ، وقوله لهما : ما كان يدا بيد فخذوه ، وما كان نسيئة فردوه .

6058 - حدثنا أبو أمية ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن الأسود قال : سمعت سليمان بن أبي مسلم الأحول قال :

سألت أبا المنهال عن الصرف ، فقال : اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد ، وشيئا بنسيئة ، فذكرنا ذلك للبراء بن عازب قال : فعلته أنا وشريكي زيد بن أرقم ، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما كان يدا بيد فخذوه ، وما كان نسيئة فردوه .

[ ص: 330 ] فهذا الحديث يحتج به في مسألة من الفقه يتنازع أهله فيها ، وهي أن الصفقة الواحدة إذا جمعت ما يجوز بيعه وحده ، وما لا يجوز بيعه وحده ، هل يجوز من ذلك ما يجوز بيعه وحده ، ويبطل منه ما لا يجوز بيعه وحده ، أو يبطلان جميعا : البيع في الذي يجوز بيعه وحده منهما ، وفي الذي لا يحوز بيعه وحده منهما ، فكان في هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكشف من سائليه المذكورين في هذا الحديث عن ذينك الشيئين اللذين سألاه عنهما ، مما يجوز البيع في أحدهما وحده ، ولا يجوز في الآخر وحده ، هل كان شراؤهما إياهما في صفقة أو صفقتين مختلفتين ؟

فعقلنا بذلك أن الحكم فيهما كان واحدا ; لأنه لو كانا مختلفين لكشفهما عن حقيقة شرائهما ، هل كان على ما يوجبه الشراء في صفقة واحدة ، أو على ما يوجبه ذلك الشراء في الصفقتين ، ثم لأجابهما بالواجب فيما يقف عليه من ذلك منهما ، ولما لم يكشفهما عن ذلك عقلنا أن الحكم فيهما يكون سواء في ذينك المعنيين ، وأن الشراء يجوز فيما كان من ذلك يدا بيد ، ويبطل في ذلك ما كان من نسيئة ، وأن حكم كل واحد من ذينك الشيئين حكم نفسه لا حكم الشيء الآخر المضموم معه في الصفقة التي جمعتهما جميعا .

وممن كان يذهب إلى هذا القول : أبو حنيفة وأصحابه ، وعبد [ ص: 331 ] الرحمن بن القاسم فيما أجاب أسدا في ذلك عن قول مالك فيه .

وقد خالفهم في ذلك غيرهم ; منهم : الشافعي ، فأبطل البيع في الشيئين ببطلانه في أحدهما .

ثم التمسنا هذا الحديث من غير رواية سليمان بن أبي مسلم ، عن أبي المنهال هل خالفه غيره ممن رواه عنه أم لا . ؟

6059 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : حدثنا إبراهيم بن الحسن بن الهيثم المصيصي ، حدثنا حجاج بن محمد قال : قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، وعامر بن مصعب أنهما سمعا أبا المنهال يقول :

سألت البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الصرف ، فقال : إن كان يدا بيد فلا بأس ، وإن كان نسيئة فلا يصلح .

[ ص: 332 ] فكان ما في هذا الحديث من روايتي عمرو بن دينار ، وعامر بن مصعب ، عن أبي المنهال عن الصرف ، وأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأله عنه عن النقد أنه جائز ، وعن النسيئة أنها لا تصلح .

وكان الحديث الأول فيه هذا المعنى ، وفيه ما ليس في هذا الحديث ، فكان أولى منه ، وعقلنا بذلك أن عمرا وعامرا سألا أبا المنهال عن شيء واحد مما هو عنده مع شيء آخر مجموعين في حديث واحد ، فأجابهما بجواب ما سألاه عنه ، وأمسك عما سواه مما [ ص: 333 ] هو عنده في ذلك الحديث عن البراء وزيد بن أرقم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان حديث سليمان بن أبي مسلم أولى منه .

6060 - وحدثنا القاسم بن عبد الله بن مهدي ، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع أبا المنهال يقول : باع شريك لي دراهم بدراهم ، بينهما فضل ، فقلت : إن هذا لا يصلح ، فقال : لقد بعتها في السوق ، فما عاب علي أحد ، فأتيت البراء ، فسألته ، فقال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم وتجارتنا هكذا ، فقال : ما كان يدا بيد فلا بأس ، وما كان نسيئة فلا خير فيه .

وائت زيد بن أرقم ، فإنه كان أعظم تجارة مني ، فأتيته ، فذكرت ذلك له ، فقال : صدق البراء
.

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث تقصير عما في حديث سليمان ، فحديث أبي المنهال أولى منه .

ثم نظرنا هل رواه عن أبي المنهال غير من ذكرناه . ؟

[ ص: 334 ]

6061 - فوجدنا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا قال : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شعبة ، حدثنا حبيب بن أبي ثابت ، حدثني أبو المنهال قال :

سألت البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم عن الصرف ، فقالا جميعا : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالورق دينا .

6062 - ووجدنا ابن أبي داود قد حدثنا قال : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أخبرنا حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت أبا المنهال يقول :

سألت البراء عن الصرف ، فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينا .

فكان في هذا الحديث أيضا طائفة مما في حديث سليمان ، وثبت أن حديث سليمان ، عن أبي المنهال أولى من أحاديث الآخرين عن أبي المنهال لحفظه ما قصروا عنه .

ثم التمسنا ذلك من طريق النظر لنقف على ذلك كيف هو فيه ؟ فرأينا البيع قد يقع على شقص من دار واجب الشفعة للشريك في [ ص: 335 ] الدار الذي هو منها ، وعلى ما سواه من عرض كعبد ، أو أمة ، أو ما سوى ذلك من العروض ، فتكون الشفعة واجبة في ذلك الشقص بحصته من الثمن ، غير واجبة فيما سواه مما لا شفعة فيه ، ثم يعود ما سواه مبيعا بحصته من الثمن ، وذلك مما لا يجوز استئناف البيع أيضا عليه بذلك ، فعقلنا بذلك أن كل واحد من العرضين اللذين تجمعهما الصفقة مضمنا بحكم نفسه لا بحكم صاحبه ، وكذلك رأيناهم أجمعوا في العرضين إذا بيعا في صفقة واحدة بثمن واحد ، والعرضان مما يجمع أنهما إذا هلكا في يد البائع من قبل قبض المبتاع منهما شيئا من المبيع أن عليهما ينتقض البيع ، كصبرتين إحداهما قمح ، والأخرى شعير ، وقع البيع عليهما بكفل مشروط في كل واحدة منهما ، فضاعت إحداهما في يد بائعها قبل قبض مبتاعها إياها منه ، أنها تضيع بحصتها من الثمن ، وتبقى الأخرى مبيعة بحصتها من الثمن ، وذلك مما لا يجوز استئناف البيع عليه كذلك وحده دون صاحبه الذي كان مضمونا معه فيها ، وفي ذلك ما قد دل على ما كان أبو حنيفة وأصحابه يقولون في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية