الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
3548 - "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب ؛ آمن بنبيه ؛ وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به؛ واتبعه وصدقه؛ فله أجران؛ وعبد مملوك؛ أدى حق الله؛ وحق سيده؛ فله أجران؛ ورجل كانت له أمة؛ فغذاها فأحسن غذاءها؛ ثم أدبها فأحسن تأديبها؛ وعلمها فأحسن تعليمها؛ ثم أعتقها؛ وتزوجها؛ فله أجران"؛ (حم ق ت ن هـ)؛ عن أبي موسى ؛ (صح) .

التالي السابق


(ثلاثة) ؛ من الرجال؛ أو رجال ثلاثة؛ وخبره قوله: (يؤتون أجورهم مرتين) ؛ وفي رواية البخاري : "ثلاثة لهم أجران" ؛ (رجل من أهل الكتاب ) ؛ أي: الإنجيل؛ لأن اليهودية نسخت؛ يرشد إليه رواية البخاري : "رجل آمن بعيسى - عليه الصلاة والسلام"؛ بدل؛ (آمن بنبيه) ؛ أو هو على عمومه؛ لأن اليهود كانوا مأجورين بإيمانهم؛ لكن بطل ذلك بكفرهم بعيسى - عليه الصلاة والسلام -؛ فبإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يحسب ذلك الأجر؛ (وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم) ؛ في عهد بعثته؛ على ما جزم به العيني ؛ تبعا للكرماني ؛ لأن نبيه بعد البعثة إنما هو محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ باعتبار عموم بعثته؛ أو بعدها؛ إلى يوم القيامة؛ على ما جرى عليه ابن حجر - رحمه الله - كشيخه البلقيني - رضي الله عنه -؛ عملا بظاهر اللفظ؛ والمؤمن من أهل الكتاب لا بد أن يكون مع إيمانه بنبيه مؤمنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ للميثاق المتقدم في آية: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ؛ (فآمن به؛ واتبعه؛ وصدقه) ؛ فيما جاء به؛ إجمالا في الإجمالي؛ وتفصيلا في التفصيلي؛ ووجه تعدد إيمانه المترتب عليه تعدد أجره؛ أن إيمانه أولا تعلق بأن المنعوت بكذا رسوله؛ وإيمانه ثانيا تعلق بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو المتصف بتلك الأوصاف؛ فهما معلومان متباينان؛ (فله أجران) ؛ أجر الإيمان بنبيه؛ وأجر الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وكذا حكم الكتابية؛ لأن النساء شقائق الرجال؛ كما هو مطرد في جل الأحكام؛ حيث يدخلن مع الرجال تبعا؛ إلا ما خصه الدليل؛ ثم لا يلزم على ذلك أن الصحابي الذي كان كتابيا أجره زائد على أجر كبار الصحابة؛ كالخلفاء الأربعة؛ لأن الإجماع خصهم وأخرجهم من هذا الحكم؛ ويلتزم ذلك في كل صحابي لم يقم دليل على زيادة أجره على من كان كتابيا؛ ولم يقل: "ومحمد" ؛ مع كونه أخص؛ إيذانا باستقلال كل منهما بالإيمان؛ واعلم أن أهل الكتاب أقسام: قسم غيروا وبدلوا؛ وماتوا على ذلك؛ فهم كفرة؛ وقسم لا؛ ولا؛ وماتوا قبل بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهم مؤمنون؛ ولهم أجر واحد؛ وقسم أدركوا بعثته؛ ودعاهم؛ فلم يؤمنوا به؛ فهم كفار؛ وقسم آمنوا به؛ فلهم أجران؛ [ ص: 334 ] والحديث فيهم؛ (وعبد مملوك) ؛ وصفه به لأن جميع الناس عباد الله؛ فأراد تمييزه بكونه مملوكا للناس؛ ( أدى حق الله) ؛ من صلاة ونحوها؛ (وحق سيده ) ؛ بأن خدمه ونصح جهده له؛ لأن من اجتمع عليه فرضان فأداهما؛ ليس كمن عليه فرض واحد فأداه؛ وفي رواية البخاري - بدل "سيده"-: "مواليه"؛ وعليه فإنما لم يقل: "مولاه"؛ لأن المراد من "العبد": جنس العبد؛ حتى يكون عند التوزيع لكل عبد مولى؛ لأن مقابلة الجمع بالجمع؛ أو ما يقوم مقامه؛ مفيدة للتوزيع؛ أو أراد أن استحقاق الأجرين إنما هو عند أداء جميع حق مواليه؛ لو كان مشتركا؛ (فله أجران) ؛ أجر تأديته للعبادة؛ وأجر نصحه وإحسانه؛ وكرره لطول الكلام؛ اهتماما؛ والمراد أن له أجران من هذه الجهة؛ وقد يكون لسيده جهات أخر يستحق بها أضعاف ذلك؛ (ورجل كانت له أمة) ؛ يطؤها بملك اليمين؛ وفي رواية الترمذي : "له جارية وضيئة" ؛ قال العراقي : ليس في الكتب الستة وصفها بالوضاءة إلا فيه؛ وفي كونها شرطا لحصول الأجر الموعود بحث؛ والمراد بقوله: "يطؤها": يحل له وطؤها؛ وإن لم يطأها؛ (فغذاها) ؛ بتخفيف الذال المعجمة؛ (فأحسن غذاءها) ؛ بالمد؛ (ثم أدبها) ؛ بأن راضها بحسن الأخلاق؛ وحملها على جميل الخصال؛ (فأحسن تأديبها) ؛ بأن استعمل فيه الرفق؛ والتلطف؛ والتأني؛ من غير ضرب؛ ولا عنف؛ (وعلمها) ؛ ما يتعين عليها من أحكام الدين؛ وما يتيسر من مندوباته ومطلوباته؛ (فأحسن تعليمها) ؛ بأن استعمل معها ما ندبوا إليه من اتصاف المعلم به؛ من نحو حسن خلق؛ ورفق في ضرب؛ وغاير بين التأديب؛ والتعليم؛ مع أنه قد يدخل فيه؛ لأن الأول عرفي؛ والثاني شرعي؛ والأول دنيوي؛ والثاني أخروي؛ (ثم أعتقها) ؛ عبر فيما قبله بالفاء؛ وفيه بـ "ثم"؛ لأن التعليم والتأديب يتعاقبان على الوطء؛ بل لا بد منهما فيه؛ بل قبله؛ لتعينهما على السيد بعد التمليك؛ بخلاف الإعتاق؛ (وتزوجها) ؛ بعد أن أصدقها؛ قرن العتق بالتزويج؛ لما فيه من قمع الكبر؛ وإذلال النفس؛ وترك التعاظم؛ إن لم يكتف سيدها بعتقها حتى تزوجها؛ ولم يتزوج ذات شرف وأصالة ومال؛ (فله أجران) ؛ أحدهما في مقابل تعليمها؛ وتأديبها؛ والثاني لإعتاقها وتزوجها ؛ أو أحدهما لإعتاقها؛ والثاني لتزوجها؛ وكما كانت جهة الأجر فيه متعددة؛ ومظنة الاستحقاق أكثر من ذلك؛ أعاد قوله: "فله أجران"؛ وخص هذه الثلاثة بالأجرين مع ثبوت مثله لغيرهم؛ كأزواج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكولد أدى حق الله؛ وحق أبيه؛ لأن الفاعل في كل منهما جامع بين أمرين؛ بينهما مخالفة عظيمة؛ فكان العامل لهما فاعل الضدين؛ عاملا بالمتنافيين؛ بخلاف غيره؛ وهذا أقعد من جواب البلقيني بأن قضيتهن خاصة بهن؛ مقصورة عليهن؛ فإن قيل: ينبغي أن يكون للأخير أربعة أجور للتأديب؛ والتعليم؛ والإعتاق؛ والتزويج؛ قلنا: لم يعتبر فيهما إلا الأجرين الأخيرين؛ اللذين هما كالمتنافيين؛ كأخواته؛ وإن تميز بغيرهما؛ ولهذا ميز بينهما على الأمرين النبي بلفظ "ثم"؛ دون غيره؛ وفيه ندب تأديب الأمة؛ والزوجة ؛ وليس لك أن تقول ليس فيه إلا الأمة؛ لأنه من التنبيه بالأدنى على الأعلى.

(حم ق ت ن هـ؛ عن أبي موسى ) .




الخدمات العلمية