الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
2652 - " إني رأيت البارحة عجبا؛ رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب؛ فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك ؛ ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر؛ فجاءته صلاته فاستنقذته من ذلك؛ ورأيت رجلا من أمتي احتوشته الشياطين؛ فجاءه ذكر الله فخلصه منهم؛ ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا؛ فجاءه صيام رمضان فسقاه؛ ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة؛ ومن خلفه ظلمة؛ وعن يمينه ظلمة؛ وعن شماله ظلمة؛ ومن فوقه ظلمة؛ ومن تحته ظلمة؛ فجاءته حجته وعمرته؛ فاستخرجاه من الظلمة؛ ورأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه؛ فجاءه بره لوالديه فرده عنه؛ ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين؛ ولا يكلمونه؛ فجاءته صلة الرحم فقالت: إن هذا كان واصلا لرحمه؛ فكلمهم وكلموه؛ وصار معهم؛ ورأيت رجلا من أمتي يأتي النبيين وهم حلق حلق؛ كلما مر على حلقة طرد؛ فجاءه اغتساله من الجنابة؛ فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي؛ ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار بيديه عن وجهه؛ فجاءته صدقته؛ فصارت ظلا على رأسه؛ وسترا عن وجهه؛ ورأيت رجلا من أمتي جاءته زبانية العذاب؛ فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من ذلك؛ ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار؛ فجاءته دموعه اللاتي بكى بها في الدنيا من خشية الله؛ فأخرجته من النار؛ ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته إلى شماله؛ فجاءه خوفه من الله (تعالى) فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه؛ ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه؛ فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه؛ ورأيت رجلا من أمتي على شفير جهنم؛ فجاءه وجله من الله (تعالى) فاستنقذه من ذلك؛ ورأيت رجلا من أمتي يرعد؛ كما ترعد السعفة؛ فجاءه حسن ظنه بالله (تعالى) فسكن رعدته؛ ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط مرة؛ ويحبو مرة؛ فجاءته صلاته علي؛ فأخذت بيده فأقامته على الصراط؛ حتى جاز؛ ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة؛ فغلقت الأبواب دونه؛ فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله؛ فأخذت بيده فأدخلته الجنة"؛ الحكيم ؛ (طب)؛ عن عبد الرحمن بن سمرة ؛ (ض) .

التالي السابق


(إني رأيت) ؛ أي: في النوم؛ كما جاء مصرحا به في رواية مالك ؛ (البارحة عجبا) ؛ أي: شيئا يتعجب منه؛ إذ "البارحة"؛ أقرب ليلة مضت؛ قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: (رأيت رجلا من أمتي) ؛ أي: أمة الإجابة؛ وكذا فيما بعده؛ (قد احتوشته ملائكة العذاب) ؛ أي: احتاطت به الملائكة الموكلون بالتعذيب من كل جهة؛ يقال: "احتوش القوم بالصيد"؛ أقاموا به؛ وقد يتعدى بنفسه؛ فيقال: "احتوشوه"؛ (فجاء) ؛ إليه؛ (وضوؤه) ؛ يحتمل الحقيقة؛ بأن يجسد الله ثواب الوضوء ؛ ويخلق فيه حياة ونطقا؛ والقدرة صالحة؛ ويحتمل أنه مضاف إلى الملك الموكل بكتابة ثواب الوضوء؛ وكذا يقال فيما بعده؛ (فاستنقذه من ذلك) ؛ أي: استخلصه منهم؛ يقال: "أنقذته من الشر"؛ إذا خلصته منه؛ فـ "نقذ؛ نقذا"؛ من باب "تعب"؛ تخلص؛ و"النقذ"؛ بفتحتين: ما أنقذته؛ كذا في المصباح وغيره؛ يعلمك في هذا الحديث بأن من فوائد الوضوء وثمراته للمداوم عليه إذا توجه عليه عذاب القبر؛ بما اكتسبه من الأدناس والآثام؛ يأتيه وضوؤه فينقذه منه؛ فالمقصود: الحث على إدامة الوضوء ؛ (ورأيت رجلا من أمتي يأتي على النبيين) ؛ أراد به ما يشمل المرسلين؛ بدليل نصه الآتي على أنه كان معهم؛ (وهم حلق حلق) ؛ بفتحتين؛ على غير قياس؛ كما في الصحاح؛ كغيره؛ أي: دوائر دوائر؛ قال الزمخشري : "حلق حلقة"؛ إذا أدار دائرة؛ وقال الأصمعي : الجمع "حلق"؛ بالكسر؛ كـ "سدرة"؛ و"سدر"؛ و"قصعة"؛ و"قصع"؛ وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن "الحلقة"؛ بالفتح؛ لغة؛ [مثل] السكون؛ قال ثعلب : وكلهم يجيزه على ضعفه؛ (كلما مر على حلقة؛ طرد) ؛ أي: أبعد ونحي؛ وقيل له: اذهب عنا؛ قال في الصحاح: "طرده"؛ أبعده؛ و"أطرد الرجل غيره"؛ [جعله] طريدا؛ أو "طرده"؛ نفاه عنه؛ وقال له: اذهب عنا؛ و"أطرده السلطان عن البلد"؛ مثل "أخرجه منه"؛ وزنا ومعنى؛ (فجاء اغتساله من الجنابة فأخذ بيده؛ فأجلسه إلى جنبي) ؛ فيه تنويه عظيم بفضل الغسل من الجنابة ؛ حيث رفع صاحبه وأجلسه بجانب صدر الأنبياء؛ وعظيم الأصفياء؛ ولم يكتف بإدخاله حلقة من الحلق؛ قال جدي - رحمه الله -: والاغتسال من الجنابة بقية من دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قال الحكيم : فالجنابة إنما سميت "جنابة"؛ لأن الماء الذي جرى من صلبه كان جاريا في الأصل من مياه الأعداء في ظهر آدم ؛ فأصابته زهومة تلك المياه بجوازه وممره من الصلب إلى مستقر العدو في الجوف؛ ومستقره في المعدة؛ في موضع الجنب؛ فإذا خرج من العبد في يقظته أو نومه؛ أوجب غسلا ؛ وإذا خرج عند خروج روحه؛ أوجبه؛ ولذلك يغسل الميت؛ فالغسل تطهير من أثر العدو؛ والجنب ممنوع من القراءة ؛ لأن الطهارة مقصودة؛ وآثار العدو موجودة؛ وهذا الرجل لو لم يغتسل في الدنيا؛ لمنعه فقد طهارته الوصول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ (ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه) ؛ بالبناء للمفعول؛ (عذاب القبر) ؛ أي: نشر عليه الملائكة الموكلون بإقامة عذاب القبر؛ وعموه به؛ يقال: "بسط الرجل الثوب؛ بسطا"؛ نشره؛ و"بسط يده"؛ مدها منشورة؛ و"بسطها في الإنفاق"؛ جاوز القصد؛ قال الزمخشري : ومن المجاز "بسط عليهم العدل والعذاب"؛ و"بسط لنا يده؛ أو لسانه بما نحب أو بما نكره"؛ (فجاءته صلاته) ؛ أي: ثوابها؛ أو الملك الموكل بها؛ (فاستنقذته من ذلك) ؛ أي: خلصته من عذاب [ ص: 22 ] القبر؛ وذلك لأن العذاب إنما يقصد العبد الآبق الهارب من الله؛ وأهل الصلاة كلما عادوا إلى الله في وقت كل صلاة؛ فوقفوا بين يديه نادمين متعوذين مسلمين نفوسهم إليه مجددين لإسلامهم؛ يترضونه بالتكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والركوع والسجود والرغبة والرهبة والتضرع في التشهد؛ فيسقط عنهم عيوب إباقهم؛ فزالت العقوبة التي استوجبوها؛ والقصد بذلك الحث على الاهتمام بالصلاة ؛ (ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين) ؛ جمع "شيطان"؛ من "شطن"؛ بعد عن الحق؛ أو عن الرحمة؛ على ما سبق؛ (فجاءه ذكر الله) ؛ أي: ثواب ذكره الذي كان يقوله في الدنيا؛ أو ملائكته؛ (فخلصه منهم) ؛ أي: سلمه ونجاه من فتنتهم؛ فقال: "خلص الشيء من التلف؛ خلوصا - من باب "قعد"- وخلاصا؛ ومخلصا"؛ سلم ونجا؛ و"خلص من الكدر"؛ صفا؛ فالشيطان وجنده قد أعطوا السبيل إلى فتنة الآدمي؛ وتزيين ما في الأرض له؛ طمعا في إغوائه؛ فهو يوصل الزينة إلى النفوس؛ ويهيجها تهييجا يزعزع أركان البدن؛ ويستفز القلب؛ حتى يزعجه عن مقره؛ فلا يعتصم الآدمي بشيء أوثق ولا أحصن من الذكر ؛ لأن الذكر إذا هاج من القلب؛ هاجت الأنوار؛ فاشتعل الصدر بنار الأنوار؛ فإذا رأى العدو ذلك؛ ولى هاربا؛ وخمدت نار الشهوة؛ التي يهيجها؛ وامتلأ الصدر نورا؛ فبطل كيده؛ (ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا) ؛ أي: يخرج لسانه من شدة العطش؛ (فجاءه صيام رمضان ) ؛ فيه الحمل السابق؛ (فسقاه) ؛ حتى أرواه؛ فهذا عبد اتبع هواه؛ وأمعن في شهواته؛ حتى بعد عن الرحمة؛ عطش؛ وإذا عطش؛ يبس؛ وإذا يبس؛ قسا؛ فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ؛ وبالرحمة يرطب القلب؛ ويروى؛ و"الصيام": ترك الشهوات؛ ورفض الهوى؛ وإنما جعل الحوض لأهل الموقف؛ لأنهم يقومون من القبور عطاشا؛ لأنهم دخلوها مع الهوى والشهوة؛ ثم لم يفارقوها إلا بمفارقة الروح؛ ومن ترك الهوى والشهوة؛ سكن عطشه؛ وروي برحمة الله؛ وخرج من قبره إلى الله ريان؛ فأولئك الذين يسبقون إلى دخول الجنة؛ قال في مختار الصحاح كأصله: و"اللهثان"؛ بفتح الهاء: العطش؛ وبسكونها: العطشان؛ والمرأة "لهثى"؛ وبابه "طرب"؛ و"لهاثا"؛ أيضا بالفتح؛ و"اللهاث"؛ بالضم: حر العطش؛ و"لهث الكلب"؛ أخرج لسانه من العطش والتعب؛ قال الزمخشري : من المجاز: "هو يقاسي لهاث الموت"؛ شدته؛ (ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة؛ ومن خلفه ظلمة؛ وعن يمينه ظلمة؛ وعن شماله ظلمة؛ ومن فوقه ظلمة؛ ومن تحته ظلمة) ؛ يعني: احتاطت به الظلمة من جميع جهاته الست؛ بحيث صار مغموسا فيها؛ مغمورا؛ ( فجاءته حجته؛ وعمرته؛ فاستخرجاه من الظلمة ) ؛ إلى النور؛ و"الظلمة": عدم النور؛ وجمعها "ظلم"؛ و"ظلمات"؛ كـ "غرف"؛ و"غرفات"؛ في وجوهها؛ و"الظلام": أول الليل؛ و"الظلماء": الظلمة؛ (ورأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ) ؛ أي: عزرائيل - عليه السلام -؛ على ما اشتهر؛ قال: ولم أقف على تسميته بذلك في الخبر؛ (ليقبض روحه) ؛ أي: ينزعها من جسده؛ ويأخذها؛ يقال: "قبضت الشيء قبضا"؛ أخذته؛ (فجاءه بره) ؛ بكسر الباء؛ (بوالديه؛ فرده عنه) ؛ أي: رد ملك الموت عن قبض روحه في ذلك الوقت؛ لما أن بر الوالدين يزيد في العمر ؛ وقد جاء ذلك في عدة أخبار؛ وذلك بالنسبة لما في اللوح؛ أو الصحف؛ أما العلم الأزلي؛ فلا يتغير؛ قال الحكيم : فبر الوالدين شكر؛ لأنه قال: اشكر لي ولوالديك إلي المصير ؛ فإذا برهما؛ فقد شكرهما؛ وقال في تنزيله: لئن شكرتم لأزيدنكم ؛ وإنما وجد العبد العمر من ربه في وقت انفصاله من أمه؛ وقد كان في البطن حياة؛ ولم [ ص: 23 ] يكن عمر؛ فلما خرج أعطي العمر بمقدار؛ فإذا وصل والديه ببر؛ كان قد وصل الرحم؛ الذي منه خرج؛ والصلب؛ الذي منه جرى؛ فكان فعله ذاك شكرا؛ فزيد منه العمر؛ الذي شكر من أجله؛ فرد عنه ملك الموت ؛ يعلمك في هذا الحديث أن العبد إذا وصل رحمه؛ زيد في عمره ؛ لأنه بالصلة صار شاكرا؛ فشكر الله له؛ ووفى له بما وعد في تنزيله؛ فزاد في عمره؛ (ورأيت رجلا من أمتي يكلم الناس؛ ولا يكلمونه؛ فجاءته صلة الرحم) ؛ بكسر الصاد؛ إحسانه إلى أقاربه بالقول؛ والفعل؛ (فقالت: إن هذا كان واصلا لرحمه) ؛ أي: بارا لهم؛ محسنا إليهم؛ كما تقرر؛ قال الزمخشري : ومن المجاز: "وصل رحمه"؛ و"أمر الله بصلة الرحم"؛ أي: القرابة؛ (فكلمهم؛ وكلموه؛ وصار معهم) ؛ هكذا ساقه المصنف؛ والذي رأيته في خط مخرجه الحكيم : "رأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين؛ فلا يكلمونه؛ فجاءته صلة الرحم؛ فقالت: يا معشر المؤمنين؛ كلموه؛ فكلموه" ؛ انتهى؛ فالرحم أصل المؤمنين كلهم؛ فمن تمسك بصلاته؛ فقد أرضى المؤمنين كلهم؛ ومن قطعها فقد أغضبهم كلهم؛ وأيسوا من خيره؛ وانقطعت الرحمة عنه؛ لأن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم؛ كما في حديث؛ (ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار بيديه عن وجهه) ؛ أي: يجعل يديه وقاية لوجهه؛ لئلا يصيبه حر النار؛ وشررها؛ و"الوهج"؛ بفتحتين؛ كما في الصحاح كغيره: حر النار؛ و"الوهج"؛ بسكون الهاء: مصدر "وهجت النار - من باب "وعد"- وهجانا"؛ أيضا بفتح الهاء؛ أي: اتقدت؛ و"أوهجها غيره"؛ و"توهجت"؛ توقدت؛ و"لها وهيج"؛ أي: توقد؛ (فجاءته صدقته) ؛ أي: جاء تمليكه شيئا لنحو الفقراء؛ بقصد ثواب الآخرة ؛ (فصارت ظلا على رأسه) ؛ أي: وقاية عن وهج الشمس؛ يوم تدنو من الرؤوس؛ يقال: "أنا في ظل فلان"؛ أي: في ستره؛ و"ظل الليل": سواده؛ لأنه يستر الأبصار عن النفوذ؛ قال الزمخشري : ومن المجاز: "بتنا في ظل فلان"؛ (وسترا عن وجهه) ؛ أي: حجابا عنه؛ لأنه إذا تصدق؛ فإنما يفدي نفسه؛ ويفك جنايته؛ و"السترة": ما يستر المار - من "المرور"-؛ أي: يحجبه؛ كما في المصباح وغيره؛ (ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه؛ بينه وبين الله حجاب؛ فجاءه حسن خلقه؛ فأخذ بيده؛ فأدخله على الله - تعالى) ؛ وذلك لأن الأخلاق مخزونة عند الله في الخزائن؛ كما تقدم في حديث؛ فإذا أحب الله عبدا؛ منحه خلقا منها؛ ليدر عليه ذلك الخلق كرائم الأفعال؛ ومحاسن الأمور؛ فيظهر ذلك على جوارحه؛ ليزداد العبد بذلك محبة توصله إليه في الدنيا قلبا؛ وفي الآخرة بدنا؛ وإذا أحب الله عبدا أهبط عليه خلقا من أخلاقه ؛ وإذا رحمه؛ أذن له في عمل من أعمال البر؛ فهذه ثمرة الرحمة؛ وتلك ثمرة المحبة؛ (ورأيت رجلا من أمتي جاءته زبانية العذاب) ؛ لفظ رواية الحكيم : "قد أخذته الزبانية من كل مكان" ؛ أي: الملائكة الذين يدفعون الناس في نار جهنم للعذاب؛ من "الزبن"؛ وهو الدفع؛ يقولون: "أراد فلان حاجة؛ فزبنه عنها فلان"؛ دفعه؛ و"الناقة تزبن ولدها وحالبها عن ضرعها"؛ و"زابنه"؛ دافعه؛ و"تزابنوا"؛ تدافعوا؛ و"وقع في أيدي الزبانية"؛ قال الزمخشري : وهم الشرط؛ لزبنهم الناس؛ وبه سميت زبانية النار؛ لدفعهم أهلها إليها؛ أهـ؛ (فجاءه أمره بالمعروف؛ ونهيه عن المنكر؛ فاستنقذه من ذلك) ؛ أي: استخلصه منهم؛ ومنعهم من دفعه فيها؛ وفي رواية الحكيم - بدله -: "فاستنقذاه..."؛ إلخ؛ أدخلاه على ملائكة الرحمة؛ قال: فالزبانية شرط الملائكة؛ والشرط لمن جاهر بالمعصية من أهل الريب؛ يأخذونهم؛ فمن استتر بستر الله؛ وأمر بالمعروف؛ ونهى عن المنكر؛ فهو - وإن استعمل أعمال أهل الريب؛ بعد أن يكون مستورا - لا ينهتك؛ فينفعه في القيامة الأمر بالمعروف؛ والنهي عن المنكر ؛ فينجيه من الزبانية؛ (ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار) ؛ أي: سقط من أعلاها؛ إلى [ ص: 24 ] أسفلها؛ والمراد: نار جهنم؛ (فجاءته دموعه) ؛ جمع "دمع"؛ وهو ماء العين المتساقط عند البكاء؛ لحزن القلب ؛ (اللاتي بكى بها في الدنيا من خشية الله) ؛ أي: من خوف عقابه؛ أو عتابه؛ أو عدم رضاه؛ (فأخرجته من النار) ؛ نار جهنم؛ فهذا عبد استوجب النار بعمله؛ فأدركته الرحمة ببكائه من الخشية؛ فأنقذته؛ لأن دمعة من الخشية تطفئ بحورا من النيران؛ (ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته إلى شماله) ؛ أي: سقطت صحيفة أعماله في يده اليسرى؛ و"الصحيفة": ما يكتب فيه؛ من نحو قرطاس؛ أو جلد؛ ولفظ رواية الحكيم - بدل "إلى شماله"-: "من قبل شماله"؛ (فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته) ؛ من شماله؛ (فجعلها في يمينه) ؛ ليكون ممن أوتي كتابه بيمينه؛ فإن أعظم الأهوال في القيامة في ثلاثة مواطن: عند تطاير الصحف؛ وعند الميزان؛ وعند الصراط؛ بدليل حديث: لا يذكر أحد أحدا في هذه المواطن ؛ فإذا وقعت الصحيفة في يمينه؛ أمن؛ وظهرت سعادته؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ؛ الآية؛ وسيجيء في خبر أن الله (تعالى) يقول: "لا أجمع على عبدي خوفين؛ ولا أمنين؛ فمن أخفته في الدنيا؛ أمنته في الآخرة" ؛ فمن قاسى خوفه في الدنيا؛ أوجب له الأمن يوم القيامة؛ فإذا جاءه الهول عند تطاير الكتب؛ جاءه الخوف؛ فنفعه بأن جعل صحيفته في يمينه؛ (ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه) ؛ برجحان سيئاته على حسناته؛ (فجاءه أفراطه) ؛ أي: أولاده الصغار؛ الذين ماتوا في حياته ؛ وذاق مرارة فقدهم؛ جمع "فرط"؛ بفتحتين؛ ومنه يقال للطفل الميت: "اللهم اجعله فرطا"؛ أي: أجرا متقدما؛ و"افترط فلان فرطا"؛ إذا مات له أولاد صغار؛ (فثقلوا ميزانه) ؛ أي: رجحوها؛ فثقلها رجحانها؛ قال في الكشاف: ومنه حديث أبي بكر لعمر - رضي الله (تعالى) عنهما - في وصية له: "وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباع الحق؛ وثقلها في الدنيا؛ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحسنات أن يثقل؛ وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل؛ وخفتها في الدنيا؛ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا السيئات أن يخف" ؛ انتهى.

(تنبيه) :

قال المولى التفتازاني كغيره: جميع أحوال يوم القيامة من الصراط والميزان وغير ذلك؛ أمور ممكنة ؛ أخبر بها الصادق؛ فوجب التصديق بها؛ ولا استبعاد في أن يسهل الله (تعالى) العبور على الصراط؛ وإن كان أحد من السيف؛ وأدق من الشعر؛ وأن توزن صحائف الأعمال؛ أو تجعل أجساما نورانية؛ وظلمانية؛ فلا حاجة إلى تأويل الصراط بطريق الجنة؛ وطريق النار؛ أو الأدلة الواضحة؛ أو العبادات؛ أو الشريعة؛ والميزان؛ بالعدل والإدراك؛ ونحو ذلك؛ (ورأيت رجلا من أمتي على شفير جهنم) ؛ أي: على حرفها وشاطئها؛ وشفير كل شيء: حرفه؛ كالنهر؛ وغيره؛ ومنه "شفر الفرج"؛ ويقولون: "قعدوا على شفير النهر؛ والبئر؛ والقبر"؛ و"قرحت أشفار عينيه من البكاء"؛ وهي منابت الهدب؛ (فجاءه وجله من الله - تعالى) ؛ أي: خوفه منه؛ (فاستنقذه من ذلك) ؛ أي: خلصه؛ (ومضى) ؛ فالوجل هو وقت انكشاف الغطاء لقلب المؤمن؛ فإذا كان ذلك فتلك خشية العبد؛ فاقشعر جلده؛ وإن جهنم حائلة يوم القيامة بين العباد؛ وبين الجنة؛ حتى تضرب الجسور؛ وتهيأ القناطر؛ فعندها يستبين الصراط؛ وهو الطريق لأهلها؛ فالخلق كلهم على شفير النار؛ فوجل العبد يجعل له السبيل لقطعها؛ إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ؛ فالمغفرة نورها ساطع؛ وهو نور الرأفة؛ فإذا جاءت الرأفة وجد العبد قلبا؛ وذهبت الحيرة؛ وشجعت النفس؛ فمضت؛ (ورأيت رجلا من أمتي يرعد؛ كما ترعد السعفة) ؛ أي: يضطرب؛ كما تضطرب وتهتز أغصان النخل؛ (فجاءه حسن ظنه بالله) - تعالى - (فسكن) ؛ بالتشديد؛ (رعدته) ؛ بكسر الراء؛ فحسن الظن من المعرفة بالله؛ وعظم أمل العبد؛ ورجاؤه لربه؛ من المعرفة ؛ فلا يضيع الله معرفة العبد؛ لأنه الذي من عليه بها؛ فلم يرجع في منه؛ وقابله بأن أعطاه حسن الظن به في الدنيا من تلك المعرفة؛ وحقق ظنه فأنجاه؛ وسكن رعدته؛ حتى مضى؛ و"الرعدة": الاضطراب؛ يقال: "أصابته رعدة من [ ص: 25 ] البرد؛ و"الخوف": اضطراب؛ و"ارتعد"؛ و"أرعد"؛ و"أرعده الخوف"؛ و"رجل رعديد"؛ بالكسر؛ و"رعديدة"؛ جبان؛ تصيبه رعدة من الخوف؛ وقال الزمخشري : ومن المجاز: "رعد لي فلان؛ وأبرق"؛ أرعد؛ و"السعف": أغصان النخل؛ ما دامت بالخوص؛ فإن جرد الخوص؛ قيل: "جريد"؛ (ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط) ؛ أي: يجر استه عليه؛ لا يستطيع المشي؛ (مرة؛ ويحبو مرة) ؛ لفظ رواية الحكيم : "يزحف أحيانا؛ ويحبو أحيانا"؛ هذا صريح في أن الحبو يغاير الزحف؛ والذي في الصحاح والأساس وغيرهما أن "الحبو": الزحف؛ فليحرر؛ (فجاءته صلاته علي؛ فأخذت بيده؛ فأقامته على الصراط؛ حتى جاز) ؛ أي: حتى قطع الصراط؛ ونفذ منه؛ ومضى إلى الجنة سالما؛ يقال: "جاز المكان؛ يجوزه"؛ سار فيه؛ و"أجازه"؛ بالألف: قطعه؛ و"أجازه"؛ نفذه؛ و"جاز العقد؛ وغيره"؛ نفذ؛ ومضى على الصحة؛ ولفظ رواية الحكيم - بدل "حتى جاز"-: "فأقامته؛ ومضى على الصراط"؛ وذلك لأن الصلاة على المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تأخذ بيده في وقت عثراته؛ بمنزلة الطفل إذا مشى فتعثر في مشيه؛ عجل إليه أبوه؛ فبادر حتى يأخذ بيده؛ فيقيمه؛ فصارت صلوات العباد على نبيهم بمنزلة ذلك الأب العطوف؛ الذي كلما عثر ولده بادر لعطفه بحفظه؛ وإقامته؛ (ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة؛ فغلقت الأبواب دونه؛ فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله) ؛ أي: "وأن محمدا رسول الله"؛ فاكتفى بأحد الشقين عن الآخر؛ لكونه معروفا بينهم؛ (فأخذت بيده؛ فأدخلته الجنة) ؛ أي: فتحت له الأبواب التي أغلقت دونه؛ فدخلها؛ لأن هذه كلمة جامعة؛ جعلت مفتاحا لأبواب الجنة؛ وقد جاء في حديث أن المؤمنين يدعون من باب الجنة؛ وإن أبوابها مقسومة على أبواب البر؛ فباب للصلاة؛ وباب للصيام؛ وباب للصدقة؛ وباب للحج؛ وباب للجهاد؛ وباب للأرحام؛ وباب لمظالم العباد؛ وهو آخرها؛ فهذه سبعة أبواب؛ مقسومة على أعمال البر؛ وكذلك أبواب النيران مقسومة على أهلها؛ ولكل باب منهم جزء مقسوم؛ وباب للجنة زائد لأهل الشهادة؛ يسمى "باب التوبة"؛ فأري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام هذه الرؤيا؛ ورؤيا الأنبياء حق؛ ووحي؛ ليعلم العباد قوة هذه الأفعال الصادرة من العبيد؛ أيام الدنيا؛ ينادى لكل نوع من هذه الأعمال من القوة هناك في الموقف؛ وفي أي موطن يعينه ويؤيده؛ ليعلم العباد أجناس هذه الأفعال؛ ومنافعها عند ذلك الهول الأعظم؛ قال جمع من الأعلام: وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام؛ فينبغي حفظه؛ واستحضاره؛ والعمل عليه؛ مع الإخلاص؛ فإنه الذي فيه الخلاص؛ وقال ابن القيم : كان شيخنا يعظم أمر هذا الحديث؛ ويفخم شأنه؛ ويعجب به؛ ويقول: أصول السنة تشهد له؛ ورونق كلام النبوة يلوح عليه؛ وهو من أحسن الأحاديث الطوال؛ ليس من دأب المصنف إيرادها في هذا الكتاب؛ لكنه لكثرة فوائده وجموم فرائده وأخذه بالقلوب اقتحم مخالفة طريقته؛ فأورده إعجابا بحسنه؛ وحرصا على النفع به؛ ولهذا لما أورده الديلمي في الفردوس استشعر الاعتراض على نفسه؛ فاعتذر بنحو ذلك.

(تنبيه) :

قال القرطبي وغيره: هذا حديث عظيم؛ ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من أحوال خاصة؛ قال: لكن هذا الحديث ونحوه من الأحاديث الواردة في نفع الأعمال لمن أخلص لله في عمله؛ وصدق الله في قوله وفعله ؛ وأحسن نيته في سره وجهره؛ فهو الذي تكون أعماله حجة له؛ دافعة عنه؛ مخلصة إياه؛ فلا تعارض بين هذا الحديث؛ وبين أخبار أخر؛ فإن الناس مختلفو الحال في خلوص الأعمال.

( الحكيم ) ؛ الترمذي ؛ (طب) ؛ وكذا الديلمي والحافظ أبو موسى المديني ؛ وغيرهم؛ وكلهم؛ (عن عبد الرحمن بن سمرة ) ؛ بضم الميم؛ قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم؛ ونحن في مسجد المدينة ؛ فذكره؛ قال الهيثمي : رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي ؛ وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن [ ص: 26 ] المخزومي ؛ وكلاهما ضعيف؛ انتهى؛ وعزاه الحافظ العراقي أيضا إلى الخرائطي ؛ في الأخلاق؛ قال: وسنده ضعيف؛ انتهى؛ وقال ابن الجوزي - بعدما أورده من طريقيه -: هذا الحديث لا يصح؛ لكن قال ابن تيمية : أصول السنة تشهد له؛ وإذا تتبعت متفرقات شواهده؛ رأيت منها كثيرا.




الخدمات العلمية