الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
2886 - "ألا أنبئكم بخير أعمالكم؛ وأزكاها عند مليككم؛ وأرفعها في درجاتكم ؛ وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؛ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم؛ ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله"؛ (ت هـ ك)؛ عن أبي الدرداء ؛ (صح) .

التالي السابق


(ألا) ؛ قال القاضي : حرف تنبيه؛ يؤكد بها الجملة المصدرة بها؛ (أنبئكم بخير أعمالكم) ؛ أي: أفضلها؛ (وأزكاها عند مليككم) ؛ أي: أنماها؛ وأطهرها عند ربكم؛ ومالككم؛ (وأرفعها في درجاتكم) ؛ أي: منازلكم في الجنة؛ (وخير لكم من إنفاق الذهب) ؛ قال الطيبي : مجرور؛ عطف على "خير أعمالكم"؛ من حيث المعنى؛ لأن المعنى: "ألا أنبئكم بما هو خير لكم من بذل أموالكم ونفوسكم؟"؛ (والورق) ؛ بكسر الراء: الفضة؛ (وخير لكم من أن تلقوا عدوكم) ؛ يعني: الكفار؛ (فتضربوا أعناقهم؛ ويضربوا أعناقكم) ؛ يعني: تقتلوهم؛ ويقتلونكم؛ بسيف؛ أو غيره؛ ( ذكر الله ) ؛ لأن سائر العبادات؛ من الإنفاق؛ ومقاتلة العدو؛ وسائل ووسائط يتقرب بها إلى [ ص: 116 ] الله (تعالى)؛ والذكر هو المقصود الأسنى؛ ورأس الذكر قول: "لا إله إلا الله"؛ وهي الكلمة العليا؛ وهي القطب الذي يدور عليه رحى الإسلام؛ والقاعدة التي بني عليها أركان الدين؛ والشعبة التي هي أعلى شعب الإيمان؛ بل هي الكل؛ وليس غيره؛ قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ؛ أي: الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدانية؛ لأن القصد الأعظم من الوحي: التوحيد؛ وما أمروا إلا ليعبدوا الله ؛ ولأمر ما تجد العارفين يؤثرونها على جميع الأذكار؛ لما فيها من الخواص التي لا طريق إلى معرفتها إلا الوجدان؛ والذوق؛ قالوا: وهذا محمول على أن الذكر كان أفضل للمخاطبين به؛ ولو خوطب به شجاع باسل حصل به نفع الإسلام في القتال؛ لقيل له: "الجهاد"؛ أو الغني الذي ينتفع به الفقراء؛ بماله؛ قيل له: "الصدقة"؛ والقادر على الحج؛ قيل له: "الحج"؛ أو من له أصلان؛ قيل له: "برهما"؛ وبه يحصل التوفيق بين الأخبار؛ وقال ابن حجر : المراد بالذكر هنا: الذكر الكامل؛ وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان؛ والقلب؛ بالشكر؛ واستحضار عظمة الرب - وهذا لا يعدله شيء؛ وأفضل الجهاد وغيره - إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد؛ وهذا الحديث يقتضي أن الذكر أفضل من تلاوة القرآن؛ وقضية الحديث المار؛ وهو قوله: "أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن" ؛ يقتضي عكسه؛ فوقع التعارض بينهما؛ وجمع الغزالي بأن القرآن أفضل؛ لعموم الخلق؛ والذكر أفضل للذاهب إلى الله في جميع أحواله؛ في بدايته؛ ونهايته؛ فإن القرآن مشتمل على صنوف المعارف والأحوال؛ والإرشاد إلى الطريق ؛ فما دام العبد مفتقرا إلى تهذيب الأخلاق؛ وتحصيل المعارف؛ فالقرآن أولى له؛ فإن جاوز ذلك؛ واستولى الذكر على قلبه؛ فمداومة الذكر أولى به؛ فإن القرآن يجاذب خاطره؛ ويسرح به في رياض الجنة؛ والذاهب إلى الله لا ينبغي أن يلتفت إلى الجنة؛ بل يجعل همه هما واحدا؛ وذكره ذكرا واحدا؛ ليدرك درجة الفناء والاستغراق؛ ولذلك قال (تعالى): ولذكر الله أكبر

(تنبيه) : أخذ ابن الحاج من ذلك: ترك طلب الدنيا أعظم عند الله من أخذها والتصدق بها؛ وأيده بما في القوت عن الحسن أنه لا شيء أفضل من رفض الدنيا؛ وبما في غيره عنه أنه سئل عن رجلين؛ طلب أحدهما الدنيا بحلالها؛ فأصابها؛ فوصل بها رحمه؛ وقدم فيها لنفسه؛ وترك الآخر الدنيا؛ فقال: أحبهما إلي الذي جانب الدنيا.

(تنبيه آخر) :

قد أخذ الصوفية بقضية هذا الحديث؛ فذهبوا أنه لا طريق إلى الوصول إلا الذكر؛ قالوا: فالطريق في ذلك أولا أن يقطع علائق الدنيا بالكلية؛ ويفرغ قلبه عن الأهل؛ والمال؛ والولد؛ والوطن؛ والعلم؛ والولاية؛ والجاه؛ ويصير قلبه إلى حالة يستوي عنده فيها وجود ذلك؛ وعدمه؛ ثم يخلو بنفسه مع الاقتصار على الفرض؛ والراتبة؛ ويقعد فارغ القلب؛ مجموع الهم؛ ولا يفرق فكره بقراءة؛ ولا غيرها؛ بل يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى ذكر الله؛ فلا يزال قائلا بلسانه: "الله؛ الله"؛ على الدوام؛ مع حضور قلبه؛ إلى أن ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان؛ ويرى كأن الكلمة جارية عليه؛ ثم يصير إلى أن ينمحي أثره من اللسان؛ فيصادف قلبه مواظبا على الذكر؛ ثم تنمحي صورة اللفظ؛ ويبقى معنى الكلمة مجردا في قلبه؛ لا يفارقه؛ وعند ذلك انتظار الفتح؛ ورد عليهم النظار؛ وذوو الاعتبار؛ بما حاصله أن تقديم تعلم العلم أوفق وأقرب إلى الغرض؛ ثم لا بأس أن يعقبه بالمجاهدة المذكورة.

(ت) ؛ في الدعوات؛ (هـ) ؛ في ثواب التسبيح؛ (ك) ؛ في الدعاء والذكر؛ (عن أبي الدرداء ) ؛ عويمر ؛ قال الحاكم : صحيح؛ وأقره الذهبي ؛ ورواه أحمد أيضا؛ قال الهيثمي : وسنده حسن.




الخدمات العلمية