الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            63 - قال الإمام الحسين بن مسعود، رحمه الله: أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، نا محمد بن إسماعيل، نا أحمد بن صالح، نا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) ، ورحم [ ص: 115 ] الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي ".

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم، عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، بإسناده مثله، غير أنه قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال": حكي عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، أنه قال: لم يشك النبي، ولا إبراهيم صلوات الله عليهما في أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكا أن يجيبهما إلى ما سألاه.

                                                                            ومما يؤيد هذا الذي ذكره المزني ما روي عن ابن عباس في قوله عز وجل: ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) ، قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. [ ص: 116 ] .

                                                                            قال أبو سليمان الخطابي : ليس في قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم، ولكن فيه نفي الشك عنهما، يقول: إذا لم أشك أنا، ولم أرتب في قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك ولا يرتاب، وقال ذلك على سبيل التواضع، والهضم من النفس، وفيه الإعلام أن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من جهة شك، لكن من قبل زيادة العلم، فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيد الاستدلال.

                                                                            وقوله: ليطمئن قلبي، أي: بيقين النظر.

                                                                            وحكي عن سعيد بن جبير، أنه قال: ( ولكن ليطمئن قلبي ) أي: بالخلة، يقول: إني أعلم أنك اتخذتني خليلا.

                                                                            ومثله عن ابن المبارك .

                                                                            ويحكى عن ابن المبارك أيضا في قوله: ( ولكن ليطمئن قلبي ) أي: ليرى من أدعوه إليك منزلتي ومكاني منك، فيجيبوني إلى طاعتك.

                                                                            وقيل: لما نزلت الآية، قال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعا منه، وتقديرا لإبراهيم.

                                                                            وكذلك قوله في يوسف: "لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي" وصف يوسف بالأناة، والصبر، حيث لم يبادر إلى الخروج حين جاءه رسول الملك فعل المذنب يعفى عنه مع طول لبثه في السجن، بل قال: ( ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ) أراد أن يقيم عليهم الحجة في حبسهم إياه ظلما، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا على سبيل التواضع، لا أنه كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف، والتواضع لا يصغر كبيرا، ولا يضع رفيعا، ولا يبطل [ ص: 117 ] لذي حق حقا، ولكنه يوجب لصاحبه فضلا، ويكسبه جلالا وقدرا.

                                                                            وقوله سبحانه وتعالى: ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ) .

                                                                            الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره ممن شك في تنزيل القرآن، كقوله سبحانه وتعالى: ( يا أيها النبي اتق الله ) وقوله: ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ) أي: سل من أرسلنا إليه من قبلك رسلا من رسلنا، يعني: أهل الكتاب الخطاب له، والمراد المشركون.

                                                                            وقوله: "رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد" أراد به قوله لقومه ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) أي: لو كانت لي عشيرة لدفعوكم، ترحم عليه النبي صلى الله عليه وسلم لسهوه في الوقت الذي ضاق صدره، واشتد جزعه بما دهمه من قومه حتى قال: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، وقد كان يأوي إلى أشد الأركان من الله تعالى. [ ص: 118 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية