الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب الرد على من قال بخلق القرآن.

                                                                            قال الله سبحانه وتعالى: ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) .

                                                                            فالقرآن كلام الله ووحيه، وتنزيله وصفته، ليس بخالق، ولا مخلوق، ولا محدث ولا حادث، مكتوب في المصاحف، محفوظ في القلوب، متلو بالألسن، مسموع بالآذان، قال الله تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ، وقال الله تعالى: ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) ، وقال الله تعالى: ( والطور وكتاب مسطور في رق منشور ) ، وقال تعالى: ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) ، وقال الله سبحانه وتعالى: ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) ، وقال الله عز وجل: ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) [ ص: 182 ] ، وقال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن ) ، وقال الله عز وجل: ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) ، وقال الله عز وجل: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ، وقال ابن عباس : لولا أن يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله.

                                                                            وقال الله تعالى: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) ، وقال الله عز وجل: ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) ، وقال عز وجل: ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ) ، وقوله تعالى: ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) ، ليس ذلك حدث الخلق، إنما هو حدوث [ ص: 183 ] أمر، كما قال الله عز وجل: ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) ، وقال ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة".

                                                                            وقوله عز وجل: ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) .

                                                                            يريد: ذكر القرآن لهم، وتلاوته عليهم، وعلمهم به، كل ذلك محدث، فالمذكور المتلو المعلوم غير محدث، كما أن ذكر العبد لله محدث، والمذكور غير محدث.

                                                                            وروي عن ابن عباس، رضي الله عنه في قوله عز وجل: ( قرآنا عربيا غير ذي عوج ) ، قال: غير مخلوق.

                                                                            وقال سفيان بن عيينة : بين الله الخلق من الأمر، فقال تعالى: ( ألا له الخلق والأمر ) . [ ص: 184 ] .

                                                                            وقوله تعالى: ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان ) ، فلم يجمع القرآن مع الإنسان في الخلق، بل أوقع اسم الخلق على الإنسان، والتعليم على القرآن، وقال الله تعالى: ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) ، وقال الله عز وجل: ( ما نفدت كلمات الله ) .

                                                                            93 - قال الشيخ: أخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رجلا من أسلم، قال: " ما نمت هذه الليلة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي شيء؟ قال: لدغتني عقرب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضرك إن شاء الله ".

                                                                            هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم من وجه آخر، عن أبي صالح [ ص: 185 ] وفي هذا الحديث وفي أمثاله مما جاء فيه الاستعاذة بكلمات الله دليل على أن كلام الله غير مخلوق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ به، كما استعاذ بالله، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) ، وقال: ( أعوذ برب الفلق ) وقال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".

                                                                            واستعاذ بصفاته، كما جاء في دعاء المشتكي " قل: أعوذ بعزة الله، وقدرته من شر ما أجد ".

                                                                            ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بمخلوق من مخلوق.

                                                                            وبلغني عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه كان يستدل بقوله: "أعوذ بكلمات الله التامات" على أن القرآن غير مخلوق، لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص.

                                                                            وقيل: كلمات الله في هذا الحديث القرآن.

                                                                            وروي عن عكرمة، قال: صلى ابن عباس على جنازة، فقال رجل من القوم: اللهم رب القرآن [ ص: 186 ] العظيم اغفر له، فقال ابن عباس : لا تقل مثل هذا، إن القرآن منه بدأ وإليه يعود.

                                                                            قال الشيخ، رحمه الله: وقد مضى سلف هذه الأمة، وعلماء السنة على أن القرآن كلام الله، ووحيه وليس بخالق ولا مخلوق، والقول بخلق القرآن ضلالة وبدعة، لم يتكلم بها أحد في عهد الصحابة والتابعين رحمهم الله، وخالف الجماعة الجعد بن درهم، فقتله خالد بن عبد الله القسري بذلك، فخطب بواسط في يوم أضحى، وقال: ارجعوا أيها الناس، فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد، ثم نزل فذبحه.

                                                                            وكان الجهم بن صفوان صاحب الجهمية أخذ هذا الكلام من الجعد بن درهم .

                                                                            وقال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار : سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة، يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. [ ص: 187 ] .

                                                                            وعن جعفر بن محمد الصادق، أنه سئل عن القرآن، فقال: أقول فيه ما يقول أبي وجدي: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله.

                                                                            وقال يحيى بن خلف المقرئ : كنت عند مالك بن أنس، فجاءه رجل، فقال: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: عندي كافر فاقتلوه.

                                                                            وعن ابن المبارك، والليث بن سعد، وابن عيينة، وهشيم، وعلي بن عاصم، وحفص بن غياث، ووكيع بن الجراح، مثله.

                                                                            وقيل لعبد الرحمن بن مهدي: إن الجهمية يقولون: إن القرآن مخلوق؟ فقال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الرحمن على العرش استوى، وأرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى، وأرادوا أن ينفوا أن يكون القرآن كلام الله، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم.

                                                                            وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة : سمعت الربيع، يقول: لما كلم الشافعي حفص الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق.

                                                                            فقال له الشافعي رضي الله عنه: كفرت بالله العظيم.

                                                                            قال الشيخ رحمه الله: واليمين لا تنعقد إلا بالله، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، ولا تنعقد بشيء من المخلوقات، فاليمين بالله، كقوله: والذي نفسي بيده، والذي أعبده، ونحو ذلك.

                                                                            واليمين بأسمائه، كقوله: والله، والرحمن، والخالق، ونحو ذلك.

                                                                            واليمين بصفاته كقوله: وعزة الله، وجلال الله، وكلام الله، وعلم الله، ونحو ذلك. [ ص: 188 ] .

                                                                            وحكى الربيع، عن الشافعي رضي الله عنه، أنه قال: من حلف بالله أو باسم من أسماء الله، فحنث، فعليه الكفارة، فإن قال: وحق الله، وعظمة الله، وجلال الله، وقدرة الله يريد بها اليمين، أو لا نية له، فهو يمين، ومن حلف بشيء غير الله، مثل أن يقول: والكعبة، وأبي، فحنث فلا كفارة عليه، لأن هذا مخلوق، وذلك غير مخلوق. [ ص: 189 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية