الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            84 - أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أنا أبو طاهر الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، نا أحمد بن يوسف السلمي، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن همام بن منبه، نا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يولد يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد، عن إسحاق، وأخرجه مسلم، عن محمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق .

                                                                            ح أخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، [ ص: 155 ] أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا.

                                                                            قال الشيخ، رحمه الله: أطفال المشركين لا يحكم لهم بجنة ولا نار، بل أمرهم موكول إلى علم الله تعالى فيهم، كما أفتى به الرسول صلى الله عليه وسلم. [ ص: 156 ] .

                                                                            وجملة الأمر أن مرجع العباد في المعاد إلى ما سبق لهم في علم الله سبحانه وتعالى من السعادة والشقاوة. [ ص: 157 ] .

                                                                            وقيل: حكم أطفال المؤمنين والمشركين حكم آبائهم، وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، يدل عليه ما روي مفسرا عن عائشة، أنها قالت: قلت: يا رسول الله، ذراري المؤمنين؟ قال: "من آبائهم".

                                                                            فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".

                                                                            قلت: فذراري المشركين؟ قال: "من آبائهم".

                                                                            قلت: بلا عمل؟! قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".


                                                                            وقال معمر، عن قتادة، عن الحسن، أن سلمان قال: أولاد المشركين خدم أهل الجنة، قال الحسن: ما تعجبون! أكرمهم الله، وأكرم بهم.

                                                                            وقوله: "من يولد على الفطرة"، أصل الفطرة في اللغة: ابتداء الخلقة، قال الله تعالى: ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) أي: مبتديها، يقال: فطر ناب البعير: إذا طلع أول ما نبت.

                                                                            قال حماد بن سلمة في معنى هذا الحديث: هذا عندنا حيث أخذ الله [ ص: 158 ] عز وجل عليهم العهد في أصلاب آبائهم، فقال: ( ألست بربكم قالوا بلى ) .

                                                                            قال أبو سليمان الخطابي : معنى قول حماد في هذا حسن، وكأنه ذهب إلى أنه لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى أنه يقول: "فأبواه يهودانه وينصرانه".

                                                                            يعني: في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه، محكوم له بحكم أبويه الكافرين.

                                                                            قال الشيخ رحمه الله: معناه: أن الفطرة في هذا الحديث هي العهد الذي أخذ عليهم بقوله تعالى: ( ألست بربكم قالوا بلى ) ، وكل مقر بأن له صانعا مدبرا، وإن عبد ما سواه ظنا منه أنه يقربه إليه، قال الله تعالى: ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) وقالوا: أي الذين اتخذوا من دونه أولياء ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار، وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها.

                                                                            قال النبي عليه السلام: يقول الله تعالى: "إني خلقت عبادي جميعا حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم"، وذلك الإقرار لا يبتني عليه [ ص: 159 ] ثواب ولا حكم، ألا ترى أن الطفل محكوم بدين أبويه الكافرين، فإذا ملكه مسلم، حكم له بدين مالكه، والله أعلم.

                                                                            قال الإمام رحمه الله: وقد روى بعضهم: "ما من مولود يولد إلا على فطرة الإسلام حتى يعرب، فأبواه يهودانه وينصرانه".

                                                                            أراد به الفطرة التي يعتقدها أهل الإسلام، حيث قالوا: بلى، ولا يبتني عليه الحكم كما سبق.

                                                                            قال الخطابي : وفيه وجه آخر ذهب إليه عبد الله بن المبارك حين سئل عنه، فقال: تفسيره قوله حين سئل عن الأطفال، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، يريد، والله أعلم أن كل مولود من البشر إنما يولد على فطرته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة أو الشقاوة، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لفطرته في السعادة أو الشقاوة.

                                                                            فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين، فيحملانه لشقائه على اعتقاد دينهما، فينشأ عليه أو يموت قبل أن يعقل، فيصف الدين، فهو محكوم له بحكم والديه. [ ص: 160 ] .

                                                                            قال الشيخ، رحمه الله: الذي يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ( لا تبديل لخلق الله ) أي: لا تبديل لتلك الخلقة التي خلقهم لها من الجنة أو النار كما جاء في الحديث: "خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون".

                                                                            قال الخطابي : وفيه وجه ثالث: وهو أن يكون معناه أن كل مولود من البشر إنما يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة، أي: على الجبلة السليمة، والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها، لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول، وبشره في النفوس، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره، ثم تمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم، والميل إلى أديانهم، فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة، وعن المحجة المستقيمة.

                                                                            وليس في هذا ما يوجب حكم الإيمان له، إنما هو ثناء على هذا الدين، وإخبار عن سر محله من العقول، وحسن موقعه في النفوس.

                                                                            هذا قول أبي سليمان في كتابه. [ ص: 161 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية