الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            19 - قال الشيخ الحسين بن مسعود، رحمه الله: أنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف، نا محمد بن إسماعيل، نا سعيد بن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد هو ابن أسلم، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو في فطر إلى المصلى، ثم انصرف فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة، فقال: "أيها الناس، تصدقوا"، فمر على النساء، فقال: "يا معشر [ ص: 37 ] النساء تصدقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار"، فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟" قلن: بلى.

                                                                            يا رسول الله، قال: "فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟" قلن: بلى.

                                                                            قال: " فذلك من نقصان دينها.

                                                                            ثم انصرف، فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب، فقال: "أي الزيانب؟"، فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: "نعم ائذنوا لها"، فأذن لها، قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "، صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم"
                                                                            .. [ ص: 38 ] .

                                                                            وهذا حديث متفق على صحته، وأخرجه مسلم، عن الحسن الحلواني، وغيره، عن ابن أبي مريم .

                                                                            وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك بن سنان، أما سعد بن أبي وقاص، فهو سعد بن مالك بن وهيب أبو إسحاق من بني عبد مناف بن زهرة، وعياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري القرشي يعد في أهل المدينة .

                                                                            وقوله: "وتكفرن العشير"، يعني: الزوج، سمي عشيرا، لأنه يعاشرها وهي تعاشره.

                                                                            قال الخطابي: فيه دليل على أن النقص من الطاعات نقص من الدين، وفيه دلالة على أن ملاك الشهادة العقل مع اعتبار الأمانة والصدق، وأن شهادة المغفل ضعيفة، وإن كان رضيا في الدين والأمانة.

                                                                            قال الشيخ الحسين بن مسعود، رحمه الله: اتفقت الصحابة والتابعون، فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، لقوله تعالى: ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) ، [ ص: 39 ] إلى قوله: ( ومما رزقناهم ينفقون ) .

                                                                            فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة .

                                                                            وقالوا: إن الإيمان قول، وعمل، وعقيدة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء.

                                                                            وروي عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وألطفهم بأهله".

                                                                            وعن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان". [ ص: 40 ] .

                                                                            وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : " إن للإيمان فرائض، وشرائع، وحدودا، وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت، فما أنا على صحبتكم بحريص.

                                                                            واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته، قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.

                                                                            وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة. [ ص: 41 ] .

                                                                            وكرهوا أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا، بل يقول: أنا مؤمن، ويجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

                                                                            لا على معنى الشك في إيمانه واعتقاده من حيث علمه بنفسه، فإنه فيه على يقين وبصيرة، بل على معنى الخوف من سوء العاقبة، وخفاء علم الله تعالى فيه عليه، فإن أمر السعادة والشقاوة يبتني على ما يعلم الله من عبده، ويختم عليه أمره، لا على ما يعلمه العبد من نفسه، والاستثناء يكون في المستقبل، وفيما خفي عليه أمره، لا فيما مضى وظهر، فإنه لا يسوغ في اللغة لمن تيقن أنه قد أكل وشرب أن يقول: أكلت إن شاء الله، وشربت إن شاء الله، ويصح أن يقول: آكل وأشرب إن شاء الله.

                                                                            ولو قال: أنا مؤمن من غير استثناء يجوز، لأنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، مقر بها من غير شك.

                                                                            قال سفيان الثوري : من كره أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو عندنا مرجئ يمد بها صوته.

                                                                            وقال أيضا: خالفنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل، ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: نحن مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله. [ ص: 42 ] .

                                                                            وقال أيضا: الناس عندنا مؤمنون مسلمون في المناكحة والطلاق والأحكام، فأما عند الله، فلا ندري ما هم، وقال أيضا: نحن مؤمنون، والناس عندنا مؤمنون، وهؤلاء القوم يريدون منا أن نشهد أنا عند الله مؤمنون، ولم يكن هذا فعال من مضى، وكذلك لا يجوز لأحد أن يقول: أنا مؤمن في علم الله، لأن علم الله لا يتغير، وقد يتبدل حال الإنسان، فيصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، ونعوذ بالله من الخذلان، والكفر بعد الإيمان.

                                                                            قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار". [ ص: 43 ] .

                                                                            قال الشيخ الإمام: وليعتبر المعتبر بإبليس، فإنه مع مكانته من حيث الظاهر فيما بين الملائكة قبل خلق آدم صلى الله عليه وسلم، بدا له من الله ما لم يكن يحتسب، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فنسأل الله الكريم حسن العاقبة، والختم بالسعادة.

                                                                            ولذلك اتفقوا على أنه ليس لأحد أن يحكم لنفسه، ولا لشخص بعينه أنه من أهل الجنة، أو من أهل النار، لتستر عواقب أمور العباد على الخلق، وحقيقة الإيمان ما يؤدي العبد إلى موعود الله تعالى من النعيم المقيم، بل نرجو للمطيع حسن المآب، ونخاف على المجرم سوء العذاب، إلا الأنبياء ومن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة من الصحابة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، والحسن، والحسين، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم، فإنا نقطع لهم بالجنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله صدق، وكذلك كل من ورد فيه بعينه نص كتاب أو سنة، حكم به بنار أو جنة.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية