الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            129 - أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، نا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، أنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الهروي، أنا محمد بن يونس القرشي، نا عبد الله بن داود، نا عاصم بن رجاء ابن حيوة، حدثني داود بن جميل، عن كثير بن قيس، قال: كنت مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاء رجل، فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث بلغني أنك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما كانت لك حاجة غيره؟ قال: لا، قال: ولا جئت لتجارة؟ [ ص: 276 ] .

                                                                            قال: لا، قال: ولا جئت إلا فيه؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "من سلك طريق علم سهل الله له طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر، العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به، فقد أخذ بحظ وافر".


                                                                            هذا حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث عاصم بن رجاء ابن حيوة .

                                                                            وأبو الدرداء اسمه عويمر بن عامر الأنصاري، نزل الشام، ويقال: اسمه عامر بن مالك، وعويمر لقبه، ويقال: عويمر بن زيد بن قيس بن أسد بن عامر بن الحارث بن خزرج، توفي قبل خلافة عثمان [ ص: 277 ] بسنة، يقال: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: توفي في خلافة معاوية.

                                                                            قوله: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها" قيل معناه: أنها تتواضع لطالب العلم توقيرا لعلمه، كقوله سبحانه وتعالى: ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) ، وقال الله عز وجل: ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) أي: تواضع لهم.

                                                                            وقيل: معنى وضع الجناح: هو الكف عن الطيران، والنزول للذكر، كما ذكر في الحديث الأول: "إلا نزلت عليهم السكينة، وحفت بهم الملائكة".

                                                                            وكما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم "، قال: "فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا".

                                                                            وقيل: معناه: بسط الجناح، وفرشها لطالب العلم لتحمله عليها، فيبلغه حيث يقصده من البلاد في طلب العلم.

                                                                            وقيل: معناه: المعونة، وتيسير السعي له في طلبه.

                                                                            قوله: "وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له".

                                                                            قال الشيخ الإمام: أراد أهل السماوات والأرض، كقوله سبحانه وتعالى: ( واسأل القرية ) أي: أهل القرية. [ ص: 278 ] .

                                                                            وفي بعض الروايات: "وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء".

                                                                            وقيل: إن الله سبحانه وتعالى ألهم الحيتان وغيرها من أنواع الحيوان الاستغفار للعلماء، لأنهم هم الذين بينوا الحكم فيما يحل منها ويحرم للناس، فأوصوا بالإحسان إليها، ونفي الضرر عنها، مجازاة لهم على حسن صنيعهم.

                                                                            قال الشيخ الإمام: وفضل العلم على العبادة من حيث إن نفع العلم يتعدى إلى كافة الخلق، وفيه إحياء الدين، وهو تلو النبوة.

                                                                            وروي عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم".

                                                                            وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد". [ ص: 279 ] .

                                                                            وقوله: "فمن أخذ به أخذ بحظ وافر".

                                                                            يعني: من ميراث النبوة.

                                                                            قال ابن عباس : "تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائها".

                                                                            وفي رواية: "تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها".

                                                                            وقال قتادة: باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه، وصلاح من بعده، أفضل من عبادة حول.

                                                                            وقال الثوري: ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.

                                                                            وعنه أيضا: ما أعلم اليوم شيئا أفضل من طلب العلم.

                                                                            قيل له: ليس لهم نية؟ قال: طلبهم له نية.

                                                                            وقال الحسن : من طلب العلم يريد به ما عند الله، كان خيرا له مما طلعت عليه الشمس.

                                                                            وقال ابن وهب : كنت عند مالك قاعدا أسأله، فرآني أجمع كتبي لأقوم، قال مالك: "أين تريد؟"، قال: قلت: أبادر إلى الصلاة، قال: "ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه إذا صح فيه النية، أو ما أشبه ذلك".

                                                                            وقال الزهري: ما عبد الله بمثل الفقه.

                                                                            وقال سفيان الثوري : ما أعلم عملا أفضل من طلب العلم، وحفظه لمن أراد الله به.

                                                                            وقال سفيان في تفسير الجماعة: لو أن فقيها على رأس جبل لكان هو الجماعة. [ ص: 280 ] .

                                                                            وقال الحسن بن صالح : إن الناس يحتاجون إلى هذا في دينهم، كما يحتاجون إلى الطعام والشراب في دنياهم.

                                                                            قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: حظ من علم أحب إلي من حظ من عبادة.

                                                                            وقال الشافعي : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.

                                                                            وفي الحديث استحباب الرحلة في طلب العلم، وذهب موسى صلى الله عليه وسلم إلى الخضر، فقال: ( هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ) .

                                                                            ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد. [ ص: 281 ] .

                                                                            قال البخاري: العلم قبل القول والعمل، لقول الله عز وجل: ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) فبدأ بالعلم.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية