الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والثاني يضاهي تعويد الصبي الذي يراد منه المصارعة والمقاتلة بمباشرة أسباب ذلك منذ الصبا حتى يأنس به ويستجرئ ، عليه ، وتقوى فيه منته ، فمن ترك بالكلية المجاهدة بالصبر ضعف فيه باعث الدين ، ولا يقوى على الشهوة ، وإن ضعفت ، ومن عود نفسه مخالفة الهوى غلبها مهما أراد .

فهذا منهاج العلاج في جميع أنواع الصبر ، ولا يمكن استيفاؤه ، وإنما أشدها كف الباطن عن حديث النفس وإنما يشتد ذلك على من تفرغ له بأن قمع الشهوات الظاهرة ، وآثر العزلة وجلس للمراقبة والذكر والفكر ، فإن الوسواس لا يزال يجاذبه من جانب إلى جانب وهذا لا علاج له البتة إلا قطع العلائق كلها ظاهرا وباطنا بالفرار عن الأهل والولد والمال والجاه والرفقاء والأصدقاء ثم الاعتزال إلى زاوية بعد إحراز قدر يسير من القوت وبعد القناعة به ثم كل ذلك لا يكفي ما لم تصر الهموم هما واحدا وهو الله تعالى ثم إذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ذلك ما لم يكن له مجال في الفكر ، وسير بالباطن في ملكوت السموات والأرض ، وعجائب صنع الله تعالى ، وسائر أبواب معرفة الله تعالى ، حتى إذا استولى ذلك على قلبه دفع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه وإن لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة من القراءة والأذكار والصلوات ، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور فإن الفكر بالباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة ثم إذا فعل ذلك كله لم يسلم له من الأوقات إلا بعضها : إذ لا يخلو في جميع أوقاته عن حوادث تتجدد فتشغله عن الفكر والذكر ، من مرض ، وخوف ، وإيذاء من إنسان ، وطغيان من مخالط ، إذ لا يستغني عن مخالطة من يعينه في بعض أسباب المعيشة فهذا أحد الأنواع الشاغلة .

التالي السابق


(و) العلاج (الثاني أيضا يضاهي تعويد الصبي الذي يراد منه المصارعة والمقاتلة مباشرة أسباب ذلك) منذ زمن الصبا (حتى يأنس به، ويستجرئ عليه، وتقوى فيه منته، فمن ترك بالكلية المجاهدة بالصبر ضعف فيه باعث الدين، ولا يقويه على الشهوة، وإن ضعفت، ومن عود نفسه مخالفة الهوى غلبها مهما أراد. فهذا منهاج العلاج في جميع أنواع الصبر، ولا يمكن استيفاؤه، وإنما أشدها كف الباطن عن حديث النفس) وتوارد الهواجس على الخواطر، (وإنما يشتد ذلك على من تفرغ له) بهمته بالكلية (بأن قمع الشهوات الظاهرة، وآثر العزلة) والانفراد عن الخلق (وجلس للمراقبة والذكر والفكر، فإن الوساوس لا تزال تجاذبه من جانب إلى جانب) وتحول بينه وبين شغله، (وهذا لا علاج له ألبتة إلا قطع العلائق كلها ظاهرا وباطنا بالفرار عن الأهل والولد والمال والجاه والرفقاء والأصدقاء) والأقارب والمعارف (ثم الاعتزال) عنهم (إلى زاوية) من زوايا البلد (بعد إحراز قدر يسير من القوت) يقيم به صلبه (وبعد القناعة به) واتخاذ رفيق صالح يعينه على أحواله (ثم ترك ذلك كاملا يكفي ما لم تصر الهموم هما واحدا وهو الله تعالى) فلا يكون له هم إلا هو ولا شغل إلا به .

(ثم إذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ذلك ما لم يكن له مجال في الفكر، وسير بالباطن في ملكوت السموات والأرض، وعجائب صنع الله تعالى فيهما، وسائر أبواب معرفة الله تعالى، حتى إذا استولى ذلك على قلبه) وغلب (دفع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه) وما يغمر قلبه من همزاته (وإن لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة المرتبة في كل لحظة) أو في كل وقت مخصوص (من القراءة والأذكار والصلوات، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور) إذ القراءة والأذكار من غير حضور القلب لا تجدي نفعا، (فإن الفكر بالباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة) الجارية على اللسان في منزلة حديث النفس. (ثم إذا فعل ذلك كله لم يسلم من الأوقات إلا بعضها) أي: بالشرط المذكور، (إذ لا يخلو في جميع أوقاته من حوادث تتجدد فتشغله عن الفكر والذكر، من مرض، وخوف، وإيذاء من أناس، وطغيان من مخالط، إذ لا يستغني عن مخالطة من يعينه في بعض أسباب المعيشة) بحسب الضرورة الطارئة، (فهذا أحد الأنواع الشاغلة) عن الذكر والفكر .




الخدمات العلمية