الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأولها حاسة اللمس وإنما خلقت لك حتى إذا مستك نار محرقة أو سيف جارح تحس به فتهرب منه ، وهذا أول حس يخلق للحيوان ، ولا يتصور حيوان إلا ويكون له هذا الحس لأنه إذا لم يحس أصلا فليس بحيوان وأنقص درجات الحس أن يحس بما لا يلاصقه ويماسه فإن الإحساس مما يبعد منه إحساس أتم لا محالة ، وهذا الحس موجود لكل حيوان حتى الدودة التي في الطين ، فإنها إذا غرز فيها إبرة انقبضت للهرب لا كالنبات فإن النبات يقطع فلا ينقبض إذ لا يحس بالقطع إلا أنك لو لم يخلق لك إلا هذا الحس لكنت ناقصا كالدودة لا تقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك ، بل ما يمس بدنك فتحس به فتجذبه إلى نفسك فقط فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم إلا أنك تدرك به الرائحة ، ولا تدري أنها جاءت من أي ناحية ، فتحتاج إلى أن تطوف كثيرا من الجوانب فربما تعثر على الغذاء الذي شممت ريحه ، وربما لم تعثر فتكون في غاية النقصان لو لم يخلق لك إلا هذا فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك ، وتدرك جهته ، فتقصد تلك الجهة بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصا إذ لا تدرك بهذا ما وراء الجدران والحجب فتبصر غذاء ليس بينك وبينه حجاب ، وتبصر عدوا لا حجاب بينك وبينه ، وأما ما بينك وبينه حجاب فلا تبصره ، وقد لا ينكشف الحجاب إلا بعد قرب العدو فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدران والحجب عند جريان الحركات لأنك لا تدرك بالبصر إلا شيئا حاضرا ، وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف ، وأصوات ، تدرك بحس السمع فاشتدت إليه حاجتك فخلق لك ذلك ، وميزت بفهم الكلام عن سائر الحيوانات وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق إذ يصل الغذاء إليك فلا تدرك أنه موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك ، كالشجرة يصب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذب ، وربما يكون ذلك سبب جفافها ثم : كل ذلك لا يكفيك لو لم يخلق في مقدمة دماغك إدراك آخر يسمى حسا مشتركا تتأدى إليه هذه المحسوسات الخمس وتجتمع فيه ولولاه لطال الأمر عليك ، فإنك إذا أكلت شيئا أصفر مثلا فوجدته مرا مخالفا لك فتركته ، فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر مضر ما لم تذقه ثانيا ، لولا الحس المشترك ، إذ العين تبصر الصفرة ، ولا تدرك المرارة ، فكيف تمتنع ، والذوق يدرك المرارة ، ولا يدرك الصفرة فلا بد ، من حاكم تجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعا ، حتى إذا أردت الصفرة حكم أنه مر فيمتنع عن تناوله ثانيا وهذا كله تشاركك فيه الحيوانات ، إذ للشاة هذه الحواس كلها ، فلو لم يكن لك إلا هذا لكنت ناقصا ، فإن البهيمة يحتال عليها فتؤخذ فلا تدري كيف تدفع الحيلة عن نفسها ، وكيف تتخلص إذا قيدت ، وقد تلقي نفسها في بئر ولا تدري أن ذلك يهلكها ، ولذلك قد تأكل البهيمة ما تستلذه في الحال ، ويضرها في ثاني الحال فتمرض وتموت ، إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر فأما إدراك العواقب فلا ، فميزك الله تعالى وأكرمك بصفة أخرى وهي أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها في الحال والمآل ، وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها ، فتنتفع بعقلك في الأكل الذي هو سبب صحتك ، وهو أحسن فوائد العقل ، وأقل الحكم فيه ، بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله ، ومعرفة الحكمة في عالمه وعند ذلك تنقلب فائدة الحواس الخمس في حقك فتكون الحواس الخمس كالجواسيس ، وأصحاب الأخبار الموكلين بنواحي المملكة وقد وكلت كل واحدة منها : بأمر تختص به فواحدة منها بأخبار الألوان والأخرى بأخبار الأصوات والأخرى بأخبار الروائح والأخرى بأخبار الطعوم والأخرى بأخبار الحر ، والبرد والخشونة ، والملاسة ، واللين ، والصلابة ، وغيرها وهذه البرد والجواسيس يقتنصون الأخبار : من أقطار المملكة ويسلمونها إلى الحس المشترك ، والحس المشترك قاعد في مقدمة الدماغ مثل صاحب القصص والكتب على باب الملك يجمع القصص والكتب الواردة من نواحي العالم فيأخذها وهي مختومة ويسلمها إذ ليس له إلا أخذها وجمعها وحفظها فأما معرفة حقائق ما فيها فلا ، ولكن إذا صادف القلب العاقل الذي هو الأمير والملك سلم الإنهاءات إليه مختومة فيفتشها الملك ويطلع منها على أسرار المملكة ، ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود ، وهي الأعضاء مرة في الطلب ، ومرة في الهرب ، ومرة في إتمام التدبيرات التي تعن له .

فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات ، ولا تظنن أنا استوفيناها فإن الحواس الظاهرة هي بعض الإدراكات ، والبصر واحد من جملة الحواس ، والعين آلة واحدة له ، وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة ، بعضها رطوبات ، وبعضها أغشية ، وبعض الأغشية كأنها نسج العنكبوت ، وبعضها كالمشيمة ، وبعض تلك الرطوبات كأنه بياض البيض ، وبعضها كأنه الجمد ، ولكل واحدة من هذه الطبقات العشر صفة ، وصورة ، وشكل ، وهيئة ، وعرض ، وتدوير ، وتركيب ولو اختلت ، طبقة واحدة من جملة العشر أو صفة واحدة من صفات كل طبقة لاختل البصر ، وعجز عنه الأطباء والكحالون كلهم فهذا في حس واحد فقس به حاسة السمع وسائر الحواس بل لا يمكن أن تستوفي حكم الله تعالى وأنواع نعمه في جسم البصر وطبقاته في مجلدات كثيرة مع أن جملته لا تزيد على جوزة صغيرة فكيف ظنك بجميع البدن وسائر أعضائه وعجائبه فهذه مرامز : إلى نعم الله تعالى بخلق الإدراكات .

التالي السابق


فاعلم أن النفس قد عرف تجردها وكونها في أول إنشائه ناقصة محتاجة إلى الاستكمال بالأجسام، ولم يمكنها معرفة الجسم وما فيه من المعاني من غير آلة جزئية، فخلق الباري جل جلاله حواس ظاهرة تدرك بواسطتها الأجسام، وعوارفها المكتسبة من الفيض العقلي بحسب استعدادها من الألوان، والأشكال، والطعوم، والروائح، وغير ذلك، وحواس باطنة تدرك بها أنواعا أخرى من المعارف، وهذه الحواس آلات للنفس تستخدمها في مهماتها ومقاصدها ويحصل لها شعور بالمحسوسات بواسطتها، فالحواس الظاهرة خمسة (فأولها حاسة اللمس) وهي قوة منبثة في جميع البدن، تدرك بها الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، ونحوها عند الاتصال به (وإنما خلقت لك) هذه القوة (حتى إذا مستك نار محرقة أو سيف جارح تحس به فتهرب منه، وهذا أول حس يخلق للحيوان، ولا يتصور حيوان إلا ويكون له هذا الحس لأنه إن لم يحس أصلا فليس بحيوان) ، ولذلك قالوا: الحيوان جسم نام حساس متحرك .

(وأنقص درجات الحس أن يحس بما يلاصقه ويماسه) ويتصل به (فإن الإحساس بما يبعد منه إحساس أتم لا محالة، وهذا الحس موجود لكل حيوان حتى الدودة التي في الطين، فإنها إذا غرز فيها إبرة انقبضت للهرب لا كالنبات فإن [ ص: 101 ] النبات يقطع فلا ينقبض إذ لا يحس بالقطع إلا أنك لو لم يخلق لك إلا هذا الحس لكنت ناقصا كالدود لا يقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك، بل ما يمس بدنك فتحس به فتجذبه إلى نفسك فقط فاقتربت إلى حس) آخر (تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم) وهي قوة مودعة في الزائدتين الناتئتين في مقدم الدماغ، الشبيهتين بحلمتي الثدي، بها تدرك الروائح بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم (إلا أنك تدري به الرائحة، ولا تدري أنها جاءت من أي ناحية، فتحتاج أن تطوف كثيرا من الجوانب فربما تعثر على الغذاء الذي شممت ريحه، وربما لم تعثر فتكون في غاية النقصان لو لم يخلق لك إلا هذا فخلق لك البصر) وهي قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين يلتقيان ثم يفترقان تتأدى إلى العين بها الأضواء، والألوان، والأشكال (لتدرك به ما بعد عنك، وتدرك جهته، فتقصد تلك الجهة بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصا إذ لا تدرك بهذا ما وراء الجدران والحجب فتبصر غذاء ليس بينك وبينه حجاب، وتبصر عدوا لا حجاب بينك وبينه، وأما ما بينك وبينه حجاب فلا تبصره، وقد لا ينكشف الحجاب إلا بعد قرب العدو) منك (فتعجز عن الهرب) من بين يديه (فخلق لك السمع) وهو قوة مودعة في القصب المفروش في مقعر الصماخ به تدرك الأصوات بطريق وصول الهواء المتكيفة بكيفية الصوت إلى الصماخ (حتى تدرك به الأصوات) والنغمات اللذيذة والبشعة الحاصلة من تصادم الأجسام (من وراء الجدران عند جريان الحركات) بواسطة الروح المودع في العصب على حد مخصوص من القرب والبعد وشدة الصوت ورفعته (لأنك لا تدرك بالبصر إلا شيئا حاضرا، وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف، وأصوات، تدرك بحس السمع فاشتدت إليه حاجتك فخلق لك ذلك، وميزت بفهم الكلام من سائر الحيوانات) .

وقاعدة تشكل الهواء بمقاطع الحروف غير صحيحة، لكون الهواء غير حافظ للشكل، لأنه سريع الالتئام، ثم بتشوش ما عند أذنه من الهواء ينبغي أن لا يسمع شيئا لتشوش التموجات واضطرابها، وقول القائل بأن الصوت يخرق الهواء، وينفذ فيه، غير سديد فإنه إذا تشوش الهواء المجاور للأذن بالكلية لا يبقى للبعض قوة النفوذ والامتياز عن الباقي، وأما ما قيل إن الصوت متعلق بقلع أو قرع لا كيف اتفق بل عند حركة من الهواء بعنف فلا ينبغي أن تفهم كونهما داخلين في حقيقة الصوت لبقاء الصوت بعد الفراغ عنهما، والصواب أن الصوت لا يعرف بشيء أصلا، وكذا بساط جميع المحسوسات، فإن التعريفات لابد وأن تنتهي إلى معلومات مستغنية عن التعريف لكون التسلسل باطلا، وإذا وجبت النهاية ولا شيء أظهر من المحسوسات لأن جميع علومنا منتزعة منها، وهي المعلومات الأولية، وبها تعرف مركباتها، فحقيقة الصوت لا تعرف لمن لا سمع له، وكذلك الضوء لمن لا بصر له، ومن كان له فهو مستغن عن التعريف، فالصوت أمر بسيط صورته في العقل كصورته في الحس، وحقيقته أنه صوت فقط، وكذا اللون وسائر المحسوسات، وأما أن سبب الصوت قلع أو قرع وأن الهواء شرط، وإذا لم يكن على سبيل حصول المقاطع كان على وجه آخر شرطا فهو بحث آخر لا مدخل له في حقيقة الصوت، والله أعلم .

(وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حسن الذوق) وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك بها الطعوم بمخالطة الرطوبة اللعابية، وبسائط الطعوم هي: الحلاوة، والمرارة، والحموضة، والعفوصة، والقبض والحرافة، والملوحة، والدسومة، وواحد لا طعم له ويسمى التفه. (إذ يصل الغذاء إليك فلا تدرك أنه موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك، كالشجرة يضرب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذبه، وربما يكون ذلك سبب جفافها) أي: يبسها. وليست النفس دراكة بمجرد هذه الآلات بل هذه محال لها خواص واستعدادات مختلفة، وأمزجة مخصوصة، إذا وصل إليها الروح النفساني اللطيف، وجال فيها، استعد بذلك لأن تفيض النفس عليه هيئة مستعدة بتلك الهيئة لأن يكون مرآة للنفس تشاهد بواسطة استعماله على وجوه مخصوصة العالم الحسي وخواصه لمناسبة ما بين النفس وذلك الروح الذي حصل له بتردده في تلك الآلة هيئة مخصوصة تقتضي أن تشاهد به النفس عند الاستعمال نوعا من المعلومات .

[ ص: 102 ] (ثم كل ذلك لا يكفيك لو لم يخلق في مقدمة دماغك إدراك آخر يسمى حسا مشتركا تتأدى إليه هذه المحسوسات الخمس وتجتمع فيه) ، وهذا على رأي المشائين فإنهم يزعمون أن الحواس الباطنة أيضا خمسة، أولها: الحس المشترك، وهو الذي تجتمع عنده مثل جميع المحسوسات الظاهرة، فيدركها مشاهدة، والصور التي يراها النائمون والمحرورون فيه يتمثل على رأيهم، ومحله البطن المقدم من الدماغ. والثانية: الخيال، وهي خزانة الحس المشترك، ومحله البطن المقدم أيضا، لكنه يميل إلى اليسار قليلا. والثالثة: الوهم، ومحله البطن الأوسط من الدماغ. والرابعة: الحافظة، وهي خزانة الوهم، ومحلها في البطن المؤخر منه. والخامسة: المدركة، ومحلها البطن الأوسط منه أيضا. وأما الإشراقيون فلا يثبتون إدراك شيء منها إلا المتخيلة فقط، وقد تقدم الكلام عليه .

(ولولاه لطال الأمر عليك، فإنك إذا أكلت شيئا أصفر مثلا فوجدته مرا مخالفا لك فتركته، فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر ما لم تذقه ثانيا، لولا الحس المشترك، إذ العين تبصر الصفرة، ولا تدرك المرارة، فكيف تمتنع عنه، والذوق يدرك المرارة، ولا يدرك الصفرة، فلابد من حاكم تجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعا، حتى إذا أدرك الصفرة حكم بأنه مر فيمتنع من تناوله ثانيا) وكل ذلك على رأي المشائين، وأما أفلاطون وجماعة من الأقدمين فقد أقاموا دلائل أبطلوا بها الحافظة، والخيال، وانطباع الأشباح في العين، وهي بعينها تبطل الحس المشترك أيضا، وكل صورة في الدماغ، فلا تبقى إلا المتخيلة، وهي بعينها المتوهمة التي حكمها لا يخالف حكم المتوهمة .

(وهذا كله تشاركك فيه الحيوانات، إذ للشاة هذه الحواس كلها، فلو لم يكن لك إلا هذا كنت ناقصا، فإن البهيمة تحتال عليها فتؤخذ فلا تدري كيف تدفع الحيلة عن نفسها، وكيف تتخلص إذا قيدت، وقد تلقي نفسها في بئر ولا تدري أن ذلك يهلكها، ولذلك قد تأكل البهيمة ما تستلذه في الحال، ويضرها في ثاني الحال فتمرض وتموت، إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر) فقط، (فأما إدراك العواقب فلا، فميزك الله تعالى وأكرمك بصفة أخرى هي أشرف من الكل وهو العقل) وهو الاستدراك المحض لإدراك المعقولات، وهو قوة محضة خالية عن الفعل كما في الأطفال، ويقال له العقل الهيولاني لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولي الأولى الخالية في حد ذاتها عن الصور كلها (فيه تدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها وما يضره في المآل، وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها، فتنتفع بعقلك في الأكل الذي هو سبب صحتك، وهو أخس فوائد العقل، وأقل الحكم فيه، بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى) بطريق أسمائه وصفاته (و) معرفة (أفعاله، ومعرفة الحكمة في عالمه) الحسي (وعند ذلك تنقلب فائدة الحواس في حقك فتكون الحواس الخمس كالجواسيس، وأصحاب الأخبار الموكلين بنواحي المملكة) .

(وقد وكلت كل واحدة منها) أي: من تلك الحواس (بأمر مختص بها) دون غيرها (فواحدة منها) موكلة (بأخبار الألوان) والأشكال والمقادير، وغيرها، وهي حاسة البصر، فإن النفس تشعر بما ذكر إذا وقعت العين في مقابلة الشيء. (والأخرى بأخبار الأصوات) الثقيلة، والخفيفة، الحاصلة عن تصادم الأجسام، وهي حاسة السمع. (والأخرى بأخبار الروائح) الطيبة، والكريهة، بواسطة انتقال الهواء الواصل إلى الأنف من الجسم ذي الرائحة، وهي حاسة الشم. (والأخرى بأخبار الطعوم) من الحلاوة، والمرارة، والحموضة، والعفوصة، والقبض، والحرافة، والملوحة، والدسومة، وهي حاسة الذوق. (والأخرى بأخبار الحر، والبرد) والرطوبة، واليبوسة، ويعبرون عنها بالكيفيات الأربع (والخشونة، والملاسة، واللين، والصلابة، وغيرها) من الثقل والخفة، وهي حاسة اللمس، وهي أدون هذه الإدراكات، ثم الذوق ثم الشم .

[ ص: 103 ] (وهذه البرد) بضمتين جمع بريد الرسول (والجواسيس يقتصون الأخبار) أي: يتتبعونها (من أقطار المملكة) وأطرافها (ويسلمونها إلى الحس المشترك، والحس المشترك قاعد في مقدمة الدماغ مثل صاحب القصص والكتب) الواردة (على باب الملك يجمع القصص والكتب) الواردة من نواحي العالم فيأخذها من يد الجواسيس (وهي مختومة ويسلمها) إلى الملك (إذ ليس له إلا أخذها وجمعها وحفظها) إلى وقت الحاجة (وأما معرفة حقائق ما فيها فلا، ولكن إذا صادف القلب العاقل الذي هو الأمير والملك سلم الإنهاآت) وهو رفع القصص لأنه يذكر فيها دائما، وأنهى إليه كذا وكذا (إليه مختومة فيفضها الملك) وفي نسخة فيفتشها (ويطلع منها على أسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها) في هذا المقام. وقد يفض صاحب الأخبار عن تلك القصص فيسقط منها ما يراه حشوا، ويرفع الباقي صافيا إلى حضرة الملك، فيميزه ويرفعه، ويعرف مضاره ومنافعه، ويسلمه إلى خازنه، وهي القوة الحافظة، إلى وقت حاجته، فحينئذ يتقدم بإخراجه. (وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود، وهي الأعضاء مرة في الطلب، ومرة في الهرب، ومرة في إتمام تدبيرات تعن له) أي: تعرض .

(فهذه سياقة نعمة الله) تعالى (عليك في الإدراكات، ولا تظنن أننا استوفيناها فإن الحواس الظاهرة) الخمس (هي بعض الإدراكات، والبصر واحد من جملة الحواس، والعين آلة واحدة له، وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية، وبعض الأغشية كأنها نسيج العنكبوت، وبعضها كالمشيمة، وبعض تلك الرطوبات كأنه بياض البيض، وبعضها كأنه الجمد، ولكل واحد من الطبقات العشر صفة، وصورة، وشكل، وهيئة، وعرض، وتدوير، وتركيب، لو اختلفت طبقة واحدة من جملة العشر أو صفة واحدة من صفات كل طبقة لاختل البصر، وعجز عنه الأطباء والكحالون كلهم) . وبيان ذلك أن كلا من العين مركب من سبع طبقات، وثلاث رطوبات، وهي العصب، والعضل، والعروق، وقد سمى المصنف الكل طبقات، وفيه تسامح لا يضر. وكيفية تركيبها أن العصبة المجوفة التي هي أول العصب الخارج من الدماغ تخرج من القحف إلى قعر العين، وعليها غشاآن هما غشاء الدماغ، فإذا برزت عن العين وصارت في جوفه عظم العين فارقها الغشاء الغليظ، وصار غشاء ولباسا على عظم العين، ويسمى هذا الغشاء "الطبقة الصلبية"، ثم يفارقها الغشاء الرقيق فيصير غشاء ولباسا بعد الصلبية، وتسمى "الطبقة المشيمية"، لشبهها بالمشيمة، لأنها ذات عروق كثيرة، ثم تصير هذه العصبية نفسها إلى المجوفة عريضة، ويصير منها غشاء بعد الأولين، ويسمى "الطبقة الشبكية"، ثم يتكون في وسط هذا الغشاء جسم رطب لين في لون الزجاج الذائب وقوامه، وتسمى "الرطوبة الزجاجية"، ويتكون في وسط هذا الجسم جسم آخر مستدير إلا أن في جانبه الخارجي أدنى تفرطح لتظهر فيه أشباح المرئيات، وفي جانب الداخل نتوء ليتوصل بالعصبة المجوفة كما ينبغي، وتسمى "الرطوبة الجليدية"، تشبيها بالجليد في صفائه، ويسمى "البردية" أيضا لشبهها بالبردة في شكلها أو صفائها وشفيفها، ويحفظ الزجاجية من الجليدية بمقدار النصف، ويعلو النصف الآخر جسم شبيه بنسيج العنكبوت شديد الصقال والصفاء يسمى "الطبقة العنكبوتية"، ثم يعلو هذه الطبقة جسم سائل في لون بياض البيض، وقوامه يسمى "الرطوبة البيضية"، ويعلو البيضة جسم رقيق مخمل الداخل أملس الخارج، ويختلف لونه في الأبدان، فربما كان شديد السواد، وربما كان دون ذلك في وسطه، حيث يحاذي الجليدية ثقب يتسع ويضيق في حال دون حال بمقدار حاجة الجليدية إلى الضوء فيضيق عند الضوء الشديد، ويتسع في الظلمة ويسمى هذا الثقب "الحدقة"، وهذا الغشاء "الطبقة العنبية" في خمل باطنها وملاسة ظاهرها، والثقب الذي في وسطها، وبعضهم يقول إن لون هذه الطبقة هو الإسمانجوني، ليكون نور الباصرة فيها معتدلا إذ لا لون أنسب وأوفق لنور الباصرة من هذا لأن لون السواد يقبض النور المذكور والبياض يفرقه، وهذا اللون متوسط بين السواد والبياض، ولا نجد في الألوان ما هو في حاق الوسط بينهما مثل هذا اللون، ويعلو هذه الطبقة جسم كثيف صلب صاف شفاف يشبه صحيفة رقيقة من قرن أبيض، ويسمى "الطبقة القرنية" غير [ ص: 104 ] أنها تتلون بلون الطبقة التي تحتها المسماة بالعنبية، كما إذا ألصق وراء جام من زجاج شيء ذو لون فيخيل ذلك المكان من الزجاج بلون ذلك الشيء ولونها مختلف في الناس، ففي بعض يكون زرقاء، وفي بعض يكون شهلاء، وفي بعض يكون سوداء، ويعلو هذه الطبقة ويغشيها لا كلها بل إلى موضع سواد العين جسم أبيض اللون صلب يسمى "الطبقة الملتحمة"، وهي التي تلي الهواء، وهو بياض العين، ونباته من الجلد الذي على القحف من خارج، وجوهره من لحم أبيض دسم، وقد امتزج بعضلة العين وأحكم على القرنية فلهذا يسمى بـ"الملتحمة"، ونبات القرنية من الصلبية، ونبات العنبية من المشيمة، ونبات العنكبوتية من الشبكية. هكذا رتب بعضهم هذه الطبقات والرطوبات، أعني جعل الأول الطبقة الصلبية ثم الطبقة المشيمية ثم الطبقة الشبكية ثم الرطوبة الجليدية ثم الطبقة العنكبوتية ثم الرطوبة البيضية ثم باقي الطبقات. وبعضهم جعل الرطوبة البيضية تالية للرطوبة الجليدية بين الزجاجية والبيضية ليأخذ الغذاء من الزجاجية وتدفع البيضية عنها أشعة الشمس ونحوها، وجعل الطبقات الأربع، أعني العنكبوتية والعنبية والقرنية والملتحمة، تالية للرطوبات الثلاث المتتالية .

وأشرف أجزاء العين إنما هو الرطوبة الجليدية، وسائر الطبقات والرطوبات لأجل مصلحته، فالزجاجية والطبقات الثلاث المتصلة بها قد أحاطت بنصف الجليدية من جانب الرطوبة البيضية، والطبقات الأربع المتصلة بها محيطة بنصفها الآخر من جانب آخر، وهي موضوعة في الوسط صيانة لها وحرزا، (فهذا في حس واحد فقس به حاسة السمع وسائر الحواس) . ومن أعجب ما في حاسة السمع أن في داخلها فضاء موضوعا مجوفا ذا تقعير يؤدي إليه ثقبة، وقد انبسط غشاء منتسج من ليف عصب الحس المذكور على محيط ذلك الفضاء كانبساط الجلد على الطبل، وبهذا الغشاء يكون السمع عند ما يقرعه الصوت، لأن في ذلك الفضاء هواء راكدا، فكلما وصل الهواء الخارجي المتموج إلى العصب حرك الهواء الداخل فيصادمان في العصب معا فيدرك الصوت. (بل لا يمكن أن تستوفي حكم الله تعالى وأنواع نعمه في جسم البصر وطبقاته) المذكورة (في مجلدات كثيرة) قد تكفل ببيان بعضها أهل التشريح، (مع أن جملته لا تزيد على جوزة صغيرة) أي: في المقدار ( فكيف ظنك بجميع البدن وسائر أعضائه وعجائبه) التي ركبها الله تعالى فيه. (فهذه مرامز) أي: إشارات (إلى نعم الله تعالى بخلق الإدراكات) ، والله أعلم .




الخدمات العلمية