الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان الأسامي التي تتجدد للصبر بالإضافة إلى ما عنه الصبر .

اعلم أن الصبر ضربان: أحدهما ضرب بدني كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليها وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة إما من العبادات أو من غيرها وإما بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والمرض العظيم والجراحات الهائلة ، وذلك قد يكون محمودا إذا وافق الشرع .

ولكن المحمود التام هو الضرب الآخر ، وهو الصبر النفسي عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى ثم هذا الضرب إن كان صبرا على شهوة البطن والفرج سمي عفة وإن كان عن احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر ، فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود وشق الجيوب وغيرهما وإن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس وتضاده حالة تسمى البطر وإن كان في حرب ومقاتلة سمي شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلما ويضاده التذمر وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي سعة الصدر ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام سمي كتمان السر وسمي صاحبه كتوما وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا ويضاده الحرص ، وإن كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاده الشره فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر ، ولذلك لما سئل عليه السلام مرة عن الإيمان قال : هو الصبر لأنه أكثر أعماله وأعزها كما قال الحج عرفة وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمى الكل صبرا فقال تعالى : والصابرين في البأساء ، أي المصيبة والضراء أي الفقر ، وحين البأس ، أي : المحاربة : أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون فإذا هذه أقسام الصبر باختلاف متعلقاتها ومن يأخذ المعاني من الأسامي يظن أن هذه الأحوال مختلفة في ذواتها وحقائقها من حيث رأى الأسامي مختلفة والذي يسلك الطريق المستقيم وينظر بنور الله تعالى يلحظ المعاني أولا فيطلع على حقائقها ثم يلاحظ الأسامي فإنها وضعت دالة على المعاني ، فالمعاني هي الأصول ، والألفاظ هي التوابع ، ومن يطلب الأصول من التوابع لا بد وأن يزل وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى : أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم فإن الكفار لم يغلطوا فيما غلطوا فيه إلا بمثل هذه الانعكاسات نسأل الله حسن التوفيق بكرمه ولطفه .

التالي السابق


(بيان الأسامي التي تتجدد للصبر بالإضافة إلى ما عنه الصبر)

(اعلم) أرشدك الله تعالى (أن الصبر) في اللغة الحبس والكف في ضيق، ومنه قتل فلان صبرا إذا أمسك وحبس للقتل، قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم الآية، أي: احبس نفسك معهم. وهو (ضربان ضرب بدني) ويقال له الجسمي أيضا، وذلك (كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليها) على قدر قوة البدن، ونهايته معلومة، وأكثرها لذوي الجسوم الخشنة، وليس ذلك بفضيلة تامة، ولهذا قال الشاعر:


والصبر بالأرواح يعرف فضله صبر الملوك وليس بالأجسام

(وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة إما من العبادات) كأن يصلي حتى ترم رجلاه أو يصوم مواصلا حتى تسقط قوته، (أو من غيرها) كالمشي الكثير ورفع الحجر الثقيل (وإما بالاحتمال) وهو الانفعالي (كالصبر على الضرب الشديد) بالمقارع (والمرض العظيم والجراحات الهائلة، وذلك قد يكون محمودا إذا وافق الشرع) نصا أو قياسا أو استحبابا. (ولكن المحمود التام هو الضرب الآخر، وهو الصبر النفسي) وذلك بأن يكف النفس (عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى) وبه تتعلق الفضيلة .

(ثم هذا الصبر) ضربان (إن كان صبرا عن) تناول (شهوة البطن والفرج سمي عفة) فالعفة لا تتعلق إلا بالقوى الشهوية، ولا تتعلق من القوى الشهوية إلا بالملاذ الحيوانية، وهي المعلقة بالغارين البطن والفرج، دون الألوان الحسنة، والألحان الطيبة، والأشكال المنتظمة، والعفة أس الفضائل، وإنما تتعلق بضبط القلب عن التطلع للشهوات البدنية، ومن اعتقاد ما يكون جالبا للبغي والعدوان، وتمامها يتعلق بحفظ الجوارح (وإن كان عن احتمال مكروه) وهو الضرب الثاني، وهذا قد (اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر) ، وأخصر (من ذلك اختلفت أساميه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان) ذلك (في) نزول (مصيبة اقتصر) به (على اسم الصبر) ولم يتعد به هذا الاسم (وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع) والحزن (وهو إطلاق دواعي الهوى يسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود) ولدم الصدور (وشق الجيوب وغيرها) مما يشاكلها، (وإن كان) ذلك (في احتمال الغنى) فقد (سمي ضبط النفس وتضاده حالة تسمى البطر) .

وقال بعضهم: ضبط النفس في الأشياء الملذة، والصبر يقال في الأشياء المحزنة، وقال بعضهم: بل هما في الأسماء المترادفة على معنى واحد، (وإن كان) ذلك (في حرب ومقاتلة سمي شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في كظم و) هو إمساك النفس عن قضاء وطر (الغضب سمي حلما ويضاده التذمر) بالذال المعجمة، (وإن كان في بذل المال وإنفاقه سمي سخاء ويضاده التبذير وإن كان) ذلك (في نائبة من نوائب الزمان منجرة) أي: مقلقة (سمي سعة الصدر ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر، وإن كان في إخفاء كلام) وإمساكه في الضمير (سمي كتمان السر وسمي صاحبه كتوما) ويضاده الإفشاء، (وإن كان من فضول العيش سمي زهدا ويضاده الحرص، وإن كان صبرا [ ص: 17 ] على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاد الشره) محركة (فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر، ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: هو الصبر) كما تقدم قريبا لأنه أكثر أعماله وأعزها (كما قال) صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) تقدم في كتاب التوبة، وفي كتاب الحج .

(وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمى الكل صبرا) في آية واحدة، (فقال: والصابرين في البأساء، أي المصيبة والضراء أي الفقر، وحين البأس، أي: المحاربة) ، فهذا صبر عام، ولما كان أشق شيء على النفوس وأصعبه على الطباع، وفيه عزائم الأمور، اشترط الله على المتقين والصادقين والصابرين الصبر على الشدائد والمكاره، وحقق بالصبر صدقهم وتقواهم، وأكمل به وصفهم وأعمال برهم (فقال: أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) .

(فإذا هذه أقسام الصبر باختلاف متعلقاتها) فاختلفت الأسامي لذلك، واستدلوا بذلك على فضيلته في نفسه، وأنه مقصود لذاته، (ومن يأخذ المعاني من الأسامي يظن أن هذه أحوال مختلفة في ذواتها وحقائقها من حيث رأى الأسامي مختلفة) ، وهذا نظر قاصر، (والذي يسلك الطريق المستقيم وينظر بنور الله) مما أفيض به على بصيرته (يلحظ المعاني أولا فيطلع على حقائقها) الأصلية (ثم يلاحظ الأسامي فإنها وضعت دالة على المعاني، فالمعاني هي الأصول، والألفاظ هي التوابع، ومن يطلب الأصول من التوابع لا بد وأن يزل) قدمه (وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى: أفمن يمشي مكبا) يعثر كل ساعة ويخر (على وجهه أهدى) لوعرة طريقه واختلاف أجزائه، ولذلك قابله بقوله: (أم من يمشي سويا) قائما سالما من العثار (على صراط مستقيم) مستوي الأجزاء والجهة، (فإن الكفار لم يغلطوا فيما غلطوا فيه إلا بمثل هذه الانعكاسات) فكان سببا لعثارهم (نسأل الله حسن التوفيق بكرمه ولطفه آمين) .




الخدمات العلمية