الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما من قويت بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله تعالى ولا يعرف غيره يعلم ، أنه ليس في الوجود إلا الله ، وأفعاله أثر من آثار قدرته ، فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة دونه ، وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها ، ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء وأرض وحيوان وشجر ، بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان ، أو خطه ، أو تصنيفه ، ورأى فيها الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث أثره لا من حيث إنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض ، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف .

وكل العالم تصنيف الله تعالى ؛ فمن نظر إليه من حيث إنه فعل الله ، وعرفه من حيث إنه فعل الله ، وأحبه من حيث إنه فعل الله ؛ لم يكن ناظرا إلا في الله ولا عارفا إلا بالله ولا محبا إلا له ، وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه ، بل من حيث إنه عبد الله ؛ ؛ فهذا الذي يقال فيه إنه فني في التوحيد وإنه فني عن نفسه ، وإليه الإشارة بقول من قال : كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام أو باشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم .

فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى ، وانضم إليه أن المدركات كلها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبا عند فقد العقل ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلا قليلا وهو مستغرق الهم بشهواته : وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيوانا غريبا ، أو نباتا غريبا ، أو فعلا من أفعال الله تعالى خارقا للعادة عجيبا انطلق لسانه بالمعرفة طبعا ، فقال : سبحان الله ! وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه وسائر الحيوانات المألوفة ، وكلها شواهد قاطعة لا يحس بشهادتها لطول الأنس بها ولو فرض أكمه بلغ عاقلا ثم انقشعت غشاوة عينه فامتد بصره إلى السماء والأرض والأشجار والنبات والحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة ؛ لخيف على عقله أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة العجائب لخالقها .

فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات هو الذي سد على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة فالناس في طلبهم معرفة الله كالمدهوش الذي يضرب به المثل إذا كان راكبا لحماره ، وهو يطلب حماره والجليات إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة .

فهذا سر هذا الأمر فليحقق ؛ ولذلك قيل .

فقد

ظهرت فما تخفى على أحد إلا على أكمه لا يعرف القمرا     لكن بطنت بما أظهرت محتجبا
فكيف يعرف من بالعرف قد سترا

.

التالي السابق


(وأما من قويت بصيرته ولم تضعف منته) بضم الميم أي قوته وغلبت روحانيته على جثمانيته (فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله تعالى) مع الأشياء أو قبلها، والثاني أعلى من الأول (ولا يعرف غيره، ويعلم أنه ليس في الوجود إلا الله، وأفعاله أثر من آثار قدرته، فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة دونه، وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها، ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ويذهل عن الفعل من حيث إنه بسماء وأرض وحيوان وشجر، بل ينظر فيه من حيث إنه صنع الواحد الحق فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره) وهذا مقام الصديقين، وذلك (كمن نظر في شعر إنسان، أو خطه، أو تصنيفه، ورأى فيه الشاعر والمصنف ورائي آثار من حيث أثره لا من حيث إنه حبر وعفص وزاج) اللذين بهما تركيب الحبر (مرقوم على بياض، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف، وكل العالم تصنيف الله تعالى؛ فمن نظر إليه من حيث إنه فعل الله، وعرفه من حيث إنه فعل الله، وأحبه من حيث إنه فعل الله؛ لم يكن ناظرا إلا في الله ولا عارفا إلا بالله ولا محبا إلا له، وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه، بل من حيث إنه عبد الله؛ فهذا الذي يقال فيه إنه فني في التوحيد) الذي تقدمت الإشارة إليه غير مرة (وأنه فني عن نفسه أيضا، وإليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا فغيبنا عنا) وفي نسخة: ففنينا عنا (فبقينا بلا نحن) وذكر السعد التفتازاني في إلهيات شرح المقاصد بعد أن أبطل الحلول والاتحاد، وهاهنا مذهبان آخران يوهمان الحلول والاتحاد، وليسا منه في شيء؛ الأول: [ ص: 599 ] السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله وفي الله استغرق في بحر التوحيد والعرفان، بحيث تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله، وهذا الذي يسمونه الفناء في التوحيد، وإليه يشير الحديث الإلهي: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر منه، وحينئذ ربما صدرت منه عبارات تشعر بالحلول والاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال وتعذر الكشف منه بالمقال، ونحن على ساحل التمني نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان، ونعرف بأنه طريق منافية العيان دون البرهان .

الثاني: أن الواجب هو الوجود المطلق، وهو واحد لا كثرة فيه أصلا، وإنما الكثرة في الإضافات والتعيينات التي هي بمنزلة الخيال والسرب؛ إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على الظاهر لا بطريق المخالطة، ويتكثر في النواظر لا بطريق الانقسام، ولا حلول هنا ولا اتحاد لعدم الإثنينية الغيرية. انتهى .

وقد تقدم أن من الصديقين من قال: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله معه، ومنهم من ترقى، فقال: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. قال المصنف في مشكاة الأنوار: وربما لا يفهم هذا الكلام بعض الشاذين، ففهم من قولنا أن الله مع كل شيء كالنور مع الأشياء، أنه في كل مكان تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان، بل نقول بأنه قبل كل شيء وأنه فوق كل شيء؛ فإنه يظهر كل شيء، والمظهر لا يفارق المظهر في معرفة صاحب البصيرة؛ فهذا الذي نعني بقولنا أنه مع كل شيء، ثم لا يخفى عليك أن المظهر قبل المظهر وفوقه، وأنه معه لكنه بوجه وقبله بوجه؛ فلا تظن أنه متناقض، واعتبر بالمحسوسات التي في درجتك في العرفان، وانظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد وقبلها أيضا، ومن لم يتسع صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم؛ فلكل علم رجال، وكل ميسر لما تسنى له (فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة لهم للغرض إلى الأفهام أو باشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم؛ فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى، وانضم إليه أن المدركات كلها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبي عند فقد العقل ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلا قليلا) على التدريج (وهو مستغرق الهم بشهواته) أي: لتحصيلها (وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها) واستأنس بها (فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس) وتمادي الإلف (ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيوانا غريبا، أو نباتا غريبا، أو فعلا من أفعال الله تعالى خارقا للعادة عجيبا انطلق لسانه بالمعرفة طبعا، فقال: سبحان الله!) متعجبا منه (وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه وسائر الحيوانات المألوفة، وكلها شواهد قاطعة لا يحس بشهادتها لطول الأنس بها) ولا يسبح الله عند رؤيتها (ولو فرض أكمه) وهو الذي ولد أعمى (بلغ عاقلا ثم انقشعت غشاوة عينه فامتد بصره إلى السماء والأرض والأشجار والنبات والحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة؛ لخيف على عقله أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة هذه العجائب بخالقها؛ فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات هو الذي سد على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة) .

قال الشيخ الأكبر قدس سره في حقائق الأسماء: ولا يحول في جو فضاء ساحات الغيب إلا من خلص من قيود مدارك الفكر والحس، ولا تزول ظلمة الشرك والريب إلا بشهود تصاريف تجليات الأسماء والصفات في فسيح حظائر القدس، وهذا النوع من العلوم لا يحصل من ترتيب المقدمات وإيراد الشبهات، بل بمخالفة الهوى وقمع محبة الدنيا والتحقق بحقائق التقوى، واتقوا الله ويعلمكم الله انتهى .

(فالناس في طلبهم معرفة الله تعالى كالمدهوش الذي يضرب به المثل إذا كان راكبا لحماره، وهو يطلب حماره) وهو قول العامة: ولده على كتفه، وهو يدور عليه (والجليات) الواضحات (إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة؛ فهذا سر هذا الأمر فليحقق؛ ولذلك قيل) في وصف التجلي والمحامد:

(لقد ظهرت فما تخفى على أحد إلا على أكمه لا يعرف القمرا)

[ ص: 600 ] ويروى: لا يبصر القمرا .


(لكن بطنت بما أظهرت محتجبا فكيف يعرف من بالعرف قد سترا)

وزاد صاحب القوت:


فصرت أعجب ما عاينت مجتهدا لأنني حاجب أستطلع الخبرا

وقال: وأنشد بعضهم في وصف التوحيد والتعزيز بمعناه:


لقد بطنت فلم تظهر لذي بصر وكيف يدرك من بالعين مستترا
لكن عرفت بما عرفت من خبر وكيف يعرف من بالخير مختبرا
فصرت أسعى لآثار لنار سمت وغابت العين لا رسما ولا أثرا

ثم قال: والكلام في التجلي والاحتجاب والجمع والاتصال لا أرسمه في كتاب؛ لأنه يؤدب العقول فتنفر منه فتطرحه وتضيق عنه القلوب فتقبض عليها فتمجه، وإنما أمليه من قلب إلى قلب أوعية من عين إلى عين، وقال المصنف في المقصد الأسنى: الظاهر الباطن وصفات من المضافات؛ فإن الظاهر يكون ظاهرا من وجه وباطنا من وجه، ولا يكون من وجه واحد ظاهرا وباطنا بل يكون ظاهرا من وجه، وبالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر، وبالإضافة إلى إدراك؛ فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات، والله سبحانه باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بطريق الاستدلال، فإن قلت: أما كونه باطنا بالإضافة إلى إدراك الحواس فظاهر، وأما كونه ظاهرا بالإضافة إلى إدراك العقل فغامض؛ إذ الظاهر ما لا يتمارى فيه ولا يختلف الناس في إدراكه، وهذا مما وقع الريب الكثير للخلق، فكيف يكون ظاهرا؟! فاعلم أنه إنما يخفى مع ظهوره لشدة ظهوره، فظهوره سبب بطونه ونوره هو حجاب نوره؛ فكل ما جاوز عن حده انعكس على ضده، ولعلك تتعجب من هذا الكلام وتستبعده ولا تفهمه إلا بمثال، فأقول: لو نظرت إلى كلمة واحدة، وكاتب يكتبها لاستدللت على كون الكاتب عالما قديرا سميعا بصيرا، واستفدت منها اليقين بوجود هذه الصفات لذلك الكاتب، بل لو وجدت كلمة مكتوبة لحصل لك اليقين قاطع لوجود كاتب لها عالم قادر سميع بصير حي ولم يدل عليه إلا صورة واحدة، فكما شهدت هذه الكلمة شهادة قاطعة بصفات الكاتب، فما من ذرة في السموات والأرض من ذلك وكوكب وشمس وقمر وحيوان ونبات وصفة وموصوف إلا وهي شاهدة على نفسها بالحاجة إلى مدبر دبرها وخالق خلقها وقدرها وخصصها بخصوص من صفاتها، بل لا ينظر الإنسان إلى عضو من أعضاء نفسه وجزء من أجزائه، ظاهرا وباطنا، بل إلى صفة من صفاته وحالة من حالاته التي تجري عليه قهرا بغير اختياره إلا ويراها ناطقة بالشهادة لخالقها وقاهرها ومدبرها، وكذلك كل ما يدركه بحواسه في ذاته وخارجا من ذاته، ولو كانت الأشياء مختلفة في الشهادة يشهد بعضها ولا يشهد بعضها لكان اليقين حاصلا للجميع، ولكن لما كثرت الشهادات حتى اتفقت خفيت وغمضت لشدة الظهور، ومثاله أن أظهر الأشياء ما تدركه الحواس، فأظهرها ما يدرك بحاسة البصر، وأظهر ما يدرك بنور البصر نور الشمس المشرق على الأجسام الذي به يظهر كل شيء، كيف لا يكون ظاهرا وقد أشكل ذلك على خلق كثير؟! حتى قالوا: الأشياء المتلونة ليس فيها إلا ألوانها فقط من سواد وحمرة، فإما أن يكون فيها مع اللون ضوء ونور مفارق اللون فلا؟! وسوى هؤلاء إنما تنبهوا على قيام النور بالتلونات بالتفرقة التي يدركها بين الظل وموضع النور وبين الليل والنهار؛ فإن الشمس لما تصور غيبتها بالليل عرف الفرق بين التأثر المستضيء بها وبين المظلم المحجوب عنها، فعرف وجود النور بعدم النور إذا أضيف حالة الوجود إلى حالة العدم فأدركت التفرقة مع بقاء الألوان في الحالتين، ولو أطبق نور الشمس كل الأجسام الظاهرة لشخص ولم تغب الشمس عنه حتى تدرك التفرقة؛ لتعذر عليه معرفة كون النور شيئا موجودا زائدا على الألوان مع أنه أظهر الأشياء، بل هو الذي يظهر جميع الأشياء، ولو تصور لله تعالى غيبة عن بعض الأمور لانهدمت السموات والأرض، وكلما انقطع نوره عنه، ولأدركت التفرقة بين الحالتين وعلم وجوده قطعا، ولكن لما كانت الأشياء كلها متفقة في الشهادات والأحوال كلها مطردة على نسق واحد كان ذلك سببا لخفائه؛ فسبحان من احتجب عن الخلق بنوره وخفي عليهم بشدة ظهوره! فهو الظاهر الذي لا أظهر منه والباطن الذي لا أبطن منه. انتهى .

وقال الشيخ الأكبر قدس سره في أول حقائق الأسماء لما ذكر أن الملأ [ ص: 601 ] الأعلى يطلبونه، قال: فاشترك نوع الإنسان مع الملأ الأعلى في الطلب واختلفا في الكيفية؛ فإنهم يطلبونه بالأنوار العقلية لكونهم عقولا مجردة، وهو جلت عظمته محتجب عن العقول؛ فأنى لهم ذلك؟!

قال: ومن هذا النوع من يطلبه به لكون الحق سمعه وبصره، ومنهم من يطلبه بنظره العقلي، وطالب الدليل على صحة وجدان أهل الطريقة كطالب الدليل على حلاوة العسل ولذة الجماع من العنة، وهذا شيء لا يقوم عليه دليل سوى الذوق، وفيما جرى بين الخضر وموسى عليهما السلام تبصرة لأولي الأبصار؛ فالوصول إلى معرفة الذات المتعالية لا يمكن للعقل من حيث النظر، لا يزيد الناظر إلا حيرة، وإنما يعلم بإعلام الحق على الوجه الذي يليق بحاله لمن اختصه من عباده؛ فمن قال: إن الحق جلت عظمته يعرف بدليل؛ فإنه يضرب في حديد بارد، ومن هذا قال من قال: العلم حجاب، قلت: يريد بهذا القائل المصنف، كما صرح به في كتاب الشريعة. انتهى .

قال: يريد العلم النظري، فأهل الله علموا الحق بإعلامه تعالى لكون الحق علمهم لما كان سمعهم وبصرهم، ومثل هؤلاء لو تصور فيهم نظر فكري لكان الحق عين فكرهم لكن لا يتصور ممن يكون مشهده هذا أن يكون له فكر، بل هو مع الفهم من ضروب إلهام الحق من غير تفكر لاستهلاك صفاته في صفات الحق، ومن كان فهمه عن تفكر فما هو من أهل الذوق، ثم قال عند ذكره الظاهر الباطن: الظاهر لنفسه فما زال ظاهرا، والباطن عن خلقه فلم يزل باطنا؛ فهو الظاهر بالكفاية والباطن بالعناية .

اعلم أن لأهل الكشف مرتبتين، إحداهما أعلى من الثانية، فكامل يكون له به، وهو السابق، وعارف يكون له بنفسه، وهو المقصد المتحقق بحقائق العبودية المتصف بجميع الأحوال والمتقلب في أطوار المقامات، وهو برزخ بين الكمال والنقصان؛ فهو إذا تجلى له الحق من اسم الظاهر لم يثبت لظهوره؛ لأنه قائم للحقوق بنفسه ولم يثبت لظهور الحق إلا من الحق بصره، وأما الكامل فهو له به لا بنفسه فله الثبات في كل موطن بالقوة الإلهية السارية في ذاته، فلا يبقى حال ولا مقام يظهر به ويتصرف فيه، فهو مالك الأحوال والمقامات؛ لكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه، كما ورد في الخبر: إنما نحن به وله، وهويته الدائرة الوجودية، والصاعد في الدائرة معنى الهابط، وما انقسمت دائرة الوجود إلا بالخط الموهوم، ولا وجود لها، وهو عين المقيد، وإذا كان الحق سمع المقيد وبصره ارتفع التقييد، والخط لم يبق سوى الدائرة؛ فهو الظاهر بنفسه لنفسه والمظهر لغيره ولكمال ظهوره وجلالة بروزه أورثت شدة طهوره خفاء؛ فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن العقول والأبصار لشدة ظهوره، وأما سر بطون الحق من اسم الباطن فهو أن يعلم أن رؤية الشيء تقتضي العلم به، وهو علم الرائي أنه رأى شيئا ما وأحاط علما بما رآه، وعند أهل الحق لا تنضبط رؤية الحق، وما لا ينضبط لا يقال فيه أنه يرى أو يعلم، فما رآه إلا من رأى أنه ما رآه، ولا يعلمه إلا من علم أنه ما علم، فالحجب الإلهية أبدا مسدولة بينه وبين خلقه، ولو رفعت لأحرقت سبحات الوجه ما أدركه بصره من خلقه، والحجب إن كانت مخلوقة فكيف لا تحرقه السبحات؟! وإن كانت غير مخلوقة فلا حجاب ولا احتجاب! فالحق فيها أنها سر أخفاها الله تعالى عن خلقه، سمى ذلك الإخفاء حجابا؛ فالنور منها ما حجب من المعارف النظرية، والظلمانية ما حجبت به الأمور الطبيعية والرسمية، وليس إلا اندراج النور الأدنى في الأعلى كاندراج أنوار الكواكب تحت شعاع الشمس، ولما كانت الأشياء تتحفظ بالحدود، فإذا جاوز الشيء حده انعكس ضده، كذلك ظهور الحق لما تجاوز عن حد القول والإدراك بطن واستتر عن العامة فلم يظهر لهم الأمر على ما هو عليه، وحد العارفين في معرفته أن يعرفوا أنه لا يعرف؛ إذ لو عرفوا لم يكن باطنا، وهو الباطن، والبطون يختص بالممكنات، كما أن الظهور يختص بالوجود، والبطون الذي وصف به نفسه إنما هو في حق الممكن؛ فالممكنات باطن الحق، والحق ظاهره؛ لأنه من بطون الحق ظهر الكون، وبما ظهر استتر، وفيما بطن ظهر؛ فالظهور عين البطون لما أن الآخر عين الأول. انتهى، وقد انتهى الكلام على المحبة وما يتعلق بها، ثم شرع المصنف في ذكر ما يثمر المحبة من الشوق والأنس والرضا وغير ذلك مما سيأتي بيانه إلا أن صاحب القوت جعل الرضا مقاما مستقلا من مقامات اليقين كمقام المحبة، والشيخ أبو إسماعيل الهروي جعله ملحقا بمقام التوكل كالتسليم والتفويض، قال: لأنها من آدابه، وذكر جملة أحوال في باب المحبة وعدها مقامات على طريق منازلات العبد إلى الله تعالى، وفي الله تعالى حالا بعد حال، وهذا وسمة البرق [ ص: 602 ] والوجد والذوق واللحظ والوقت والصفاء والنفس والفرق والغيب والسكن والفناء والبقاء والوجود والجمع والتعظيم والأنس والقرب والسكينة والطمأنينة والانبساط والإذلال والغيرة والشوق والوجد، وله أحوال ثلاثة: الدهش والهيجان والتمكين، قال الكمال محمد بن إسحاق الصوفي: وهذا الترتيب أولى من ترتيب غيره؛ لأنه يحصل الجمع بين معرفتها وبين علم تدريجها في السلوك والمنازلات، والله سبحانه يفتح على كل عبد من عبيده من تقديم وتأخير، وقد يعطي الله بعض العارفين واحدا منها، وقد يعطيه كلها ويعطي أضعافها إلى ما لا نهاية له مما لا نعرف وجودا ولا رأينا له رسما ولا سمعنا له ذكرا؛ قال تعالى: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم .




الخدمات العلمية