الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : ففي ترك التداوي فضل ، كما ذكرت فلم لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي لينال الفضل فنقول : فيه فضل بالإضافة إلى من كثرت ذنوبه ليكفرها ، أو خاف على نفسه طغيان العافية وغلبة الشهوات ، أو احتاج إلى ما يذكره الموت لغلبة الغفلة ، أو احتاج إلى نيل ثواب الصابرين لقصوره عن مقامات الراضين والمتوكلين ، أو قصرت بصيرته عن الاطلاع على ما أودع الله تعالى في الأدوية من لطائف المنافع حتى صار في حقه موهوما كالرقى ، أو كان شغله بحاله يمنعه عن التداوي وكان التداوي ، يشغله عن حاله لضعفه عن الجمع فإلى هذه المعاني رجعت الصوارف في ترك التداوي وكل ذلك كمالات بالإضافة إلى بعض الخلق ونقصان بالإضافة إلى درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كان مقامه أعلى من هذه المقامات كلها ؛ إذ كان حاله يقتضي أن تكون مشاهدته على وتيرة واحدة عند وجود الأسباب وفقدها فإنه لم يكن له نظر في الأحوال إلا إلى مسبب الأسباب ومن كان هذا مقامه لم تضره الأسباب ، كما أن الرغبة في المال نقص ، والرغبة عن المال كراهية له وإن كانت كمالا ، فهي أيضا نقص بالإضافة إلى من يستوي عنده وجود المال وعدمه ، فاستواء الحجر والذهب أكمل من الهرب من الذهب دون الحجر ، وكان حاله صلى الله عليه وسلم استواء المدر والذهب عنده ، وكان لا يمسكه لتعليم الخلق مقام الزهد ، فإنه منتهى قوتهم لا لخوفه على نفسه من إمساكه ، فإنه كان أعلى رتبة من أن تغره الدنيا وقد عرضت عليه خزائن الأرض فأبى أن يقبلها فكذلك يستوي عنده مباشرة الأسباب وتركها لمثل هذه المشاهدة ، وإنما لم يترك استعمال الدواء جريا على سنة الله تعالى وترخيصا لأمته فيما تمس إليه حاجتهم مع أنه لا ضرر فيه بخلاف ادخار الأموال ، فإن ذلك يعظم ضرره ، نعم التداوي لا يضر إلا من حيث رؤية الدواء نافعا دون خالق الدواء ، وهذا قد نهي عنه ، ومن حيث إنه يقصد به الصحة ليستعان بها على المعاصي ، وذلك منهي عنه والمؤمن في غالب الأمر لا يقصد ذلك وأحد من المؤمنين لا يرى الدواء نافعا بنفسه ، بل من حيث إنه جعله الله تعالى سببا للنفع ، كما لا يرى الماء مرويا ولا الخبز مشبعا ، فحكم التداوي في مقصوده كحكم الكسب ، فإنه إن اكتسب للاستعانة على الطاعة أو على المعصية كان له حكمها وإن اكتسب للتنعم المباح فله حكمه فقد ظهر بالمعاني التي أوردناها أن ترك التداوي قد يكون أفضل في بعض الأحوال ، وأن التداوي قد يكون أفضل في بعض ، وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والنيات ، وأن واحدا من الفعل والترك ليس شرطا في التوكل إلا ترك الموهومات كالكي والرقى ، فإن ذلك تعمق في التدبيرات لا يليق بالمتوكلين .

التالي السابق


(فإن قلت: ففي ترك التداوي فضل، كما ذكرت فلم لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي لينال الفضل فنقول: فيه فضل بالإضافة إلى من كثرت ذنوبه ليكفرها، أو خاف على نفسه طغيان العافية وغلبة الشهوات، أو احتاج إلى ما يذكره الموت لغلبة الغفلة، أو احتاج إلى نيل ثواب الصابرين لقصوره عن مقامات الراضين والمتوكلين، أو قصرت بصيرته على الاطلاع على ما أودع الله تعالى في الأدوية من لطائف المنافع حتى صار في حقه موهوما كالرقى، أو كان شغله بحالة تمنعه عن التداوي، وكان التداوي يشغله عن حاله لضعفه عن الجمع) بين الشغلين، (فإلى هذه المعاني رجعت الصوارف في ترك التداوي) ، وقد مر بيان ذلك تفصيلا، (وكل ذلك كمالات بالإضافة إلى بعض الخلق ونقصان بالإضافة إلى درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان مقامه أعلى من هذه المقامات كلها; إذ كان حاله يقتضي أن تكون مشاهدته على وتيرة واحدة عند وجود الأسباب وفقدها) ، فعدمها كوجودها، ووجودها كعدمها، فإن شاء تلبس بها، (فإنه لم يكن له نظر في الأحوال إلا إلى مسبب الأسباب) فهو مشغول به عن الأسباب، وإن شاء تركها لعلمه بقيام الحق عليه كفيلا، (ومن كان هذا مقامه لم تضره الأسباب، كما أن الرغبة في المال نقص، والرغبة عن المال كراهية له وإن كانت كمالا، فهي أيضا نقص بالإضافة إلى من يستوي عنده وجود المال وعدمه، فاستواء الحجر والذهب أكمل من الهرب من الذهب دون الحجر، وكان حاله صلى الله عليه وسلم استواء المدر والذهب عنده، وكان لا يمسكه لتعليم الخلق مقام الزهد، فإنه منتهى قوتهم لا لخوفه على نفسه من إمساكه، فإنه كان أعلى رتبة من أن تغره الدنيا) وتخدعه كيف (وقد عرضت عليه خزائن الأرض فأبى أن يقبلها) .

هذا تقدم بلفظ: عرضت عليه مفاتيح خزائن السماء وكنوز الأرض فردها، (فكذلك يستوي عنده مباشرة الأسباب وتركها لمثل هذه [ ص: 535 ] المشاهدة، وإنما لم يترك استعمال الدواء جريا على سنة الله وترخيصا لأمته فيما تمس إليه حاجاتهم) من الضروريات مع أنه لا ضرر فيه; لأنه من أمور الآخرة (بخلاف ادخار الأموال، فإن ذلك يعظم ضرره، نعم التداوي لا يضر إلا من حيث رؤية الدواء نافعا دون خالق الدواء، وهذا أمر نهي عنه، ومن حيث إنه يقصد به الصحة ليستعان بها على المعاصي، وذلك منهي عنه) ، وكذلك إذا كان يستعان بالصحة على البطالة وإضاعة العمر في الفضول، فهذا أيضا قد نهي عنه، (فالمؤمن في غالب الأمر لا يقصد ذلك وأحد من المؤمنين لا يرى الدواء نافعا بنفسه، بل من حيث إنه جعله الله سببا للنفع، كما لا يرى الماء مرويا ولا الخبز مشبعا، فحكم التداوي في مقصوده كحكم الكسب، فإنه إن اكتسب للاستعانة حتى على الطاعة أو على المعصية كان له حكمها وإن اكتسب للتنعم المباح فله حكمه) .

قال صاحب القوت: والأصل في التداوي وتركه أن المتوكل قد علم أن للعلة وقتا إذا انتهت إليه برأ العليل بإذن الله تعالى لا محالة، ولكن الله -عز وجل- قد يحكم أنه إن تداوى شفاه في عشرة أيام وإن لم يتداو أبرأه في عشرين يوما فيترخص العليل بإباحة الله له فيطمع في تعجيل البرء في عشرة أيام ليكون أسرع لشفائه وأقرب إلى عافيته على أنه معتقد أن الدواء لا يشفي، وأن التداوي بعينه لا ينفع; لأن الله تعالى هو الشافي وهو النافع، فالشفاء والنفع فعله بعبده وجعله في الدواء من لطائف حكمته لا يجعله سواه ولا يفعله إلا إياه إذا كانت العقاقير مطبوعة مجعولة مجبولة على خلقها، فجاعل الأسباب فيها هو جابلها لأن الجعل فيها، والخاصة منها ليس من عمل المتطبب، وإن كان يعمل بها ويجمع بينها وبين العليل; لأنه أظهر على يده سببا لرزقه، فإن الله تعالى خالق جميع ذلك وفاعله، وكذلك أيضا عند العارفين: الخبز لا يشبع وأن الماء لا يروي، كما أن المال لا يغني والعدم لا يفقر; لأن الله سبحانه هو المطعم المسقي كهو المشبع المروي، كما هو المغني المفقر بما شاء كيف شاء، وهو جاعل الشبع والري في المطعوم والمشروب، وفي النفس بالغنى والفقر بحكمته ورحمته، كما أن الله -عز وجل- هو المجيع المظمئ فيدخل الطعام والشراب على الجوع والعطش اللذين جعلهما فيذهبهما بما أدخل عليهما، كما يدخل الليل على النهار ويدخل النهار على الليل فيغلب سلطان كل واحد على الآخر فيذهبه، سواء هذا عند الموحدين من صفة الليل والنهار ومن العلل والأدوية بتسليط الشيء على ضده فيزيله بغلبة قهره بإذنه، فالعلم بهذه المعاني عقدا هو الإيمان والشهادة لها قائمة به وجدا هو اليقين، والشرك في هذه الأشياء في العوام أخفى من دبيب النمل على الصفا، والموقنون الصحيحو التوحيد من جميع ذلك برآء، فإن تعجل العليل البرء بالتداوي كان ذلك بقضاء الله وقدره على وصف السرعة من المعافاة، فإن كان ناويا في تداويه واستعجال شفائه الطاعة لمولاه والقيام بين يديه للخدمة كان مثابا على ذلك فاضلا فيه غير منقوص في مقام توكله، وإن أراد بذلك صحة جسمه لنفسه والنعيم بالعوافي، فإن ذلك باب من أبواب الدنيا ودخول فيما أبيح منها، وهو يخرجه من فضيلة التوكل وحقيقته بمقدار ما نقصه من الزهد في الحياة والنعيم، وإن أراد باستعجال العوافي قوة النفس لأجل الهوى والسعي في مخالفة المولى كان مأزورا بسوء نيته ووجود عزيمته، ويخرج من المباح إلى الحظر، وذلك يخرجه من حد التوكل وأوله، وهذا من مذموم أبواب الدنيا وممقوتها، وإن كانت نيته في تعجيل العوافي التصرف للمعاش والتكسب للإنفاق أو الجمع نظر في شأنه، فإن كان يسعى في كفاف وعلى عيلة ضعاف، وعن حاجة وإجحاف لحق هذا بالطبقة الأولى، وهذا باب من أبواب الآخرة، وهو عليه مأجور، ولا يخرجه من التوكل، وإن كان يسعى في تكاثر وتفاخر ولا يبالي من أين كسب وفيما أنفق ألحق هذا بالطبقة الثالثة من العاصين، وهذا من أكبر أبواب الدنيا وما أبعده من المولى، فهذه نيات الناس في التداوي المحمودة والمذمومة، (فقد ظهر بالمعاني التي أوردناها إن ترك التداوي قد يكون أفضل في بعض الأحوال، وأن التداوي قد يكون أفضل في بعض، وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والنيات، وأن واحدا من الفعل أو الترك ليس شرطا في التوكل إلا ترك الموهومات) التي هي (كالكي والرقى، . فإن ذلك تعمق في التدبيرات لا يليق بالمتوكلين) والله الموفق .




الخدمات العلمية