الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكل ثواب موعود على رتبة فإنه يتوزع على تلك الرتبة ، وتلك الرتبة لها بداية ونهاية ، ويسمى أصحاب النهايات السابقين وأصحاب البدايات أصحاب اليمين ثم أصحاب اليمين أيضا على درجات ، وكذلك السابقون ، وأعالي درجات أصحاب اليمين تلاصق أسافل درجات السابقين فلا معنى للتقدير في مثل هذا ، بل التحقيق أن التوكل بترك الادخار لا يتم إلا بقصر الأمل وأما عدم آمال البقاء فيبعد اشتراطه ، ولو في نفس ، فإن ذلك كالممتنع وجوده أما الناس فمتفاوتون في طول الأمل وقصره وأقل درجات الأمل يوم وليلة فما دونه من الساعات وأقصاه ما يتصور أن يكون عمر الإنسان ، وبينهما درجات لا حصر لها ، فمن لم يؤمل أكثر من شهر أقرب إلى المقصود ممن يؤمل سنة وتقييده بأربعين ، لأجل ميعاد موسى عليه السلام بعيد فإن تلك الواقعة ما قصد بها بيان مقدار ما رخص الأمل فيه ، ولكن استحقاق موسى لنيل الموعود كان لا يتم إلا بعد أربعين يوما لسر جرت به وبأمثاله سنة الله تعالى في تدريج الأمور كما قال عليه السلام إن الله خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا لأن استحقاق تلك الطينة التخمر كان موقوفا على مدة مبلغها ما ذكر .

التالي السابق


(و) أيضا (كل ثواب موعود) في الآخرة (على رتبة) من رتب الإيمان (فإنه يتوزع) ، أي: ينقسم (على تلك الرتبة، وتلك الراتبة لها بداية ونهاية، ويسمى أصحاب النهايات منهم السابقين) ؛ لأنهم سبقوا في تلك الرتبة، وبلغوا منتهى الدرجات، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: ومنهم سابق بالخيرات .

(وأصحاب البدايات) الذين لم يبلغوا بعد أقصى الدرجات يسمون (أصحاب اليمين) وهم المقتصدون، (ثم أصحاب اليمين أيضا على درجات، وكذلك السابقون، وأعالي درجات أصحاب اليمين تلاصق أسافل درجات السابقين) فنهاياتهم بدايات السابقين (فلا معنى للتقدير في مثل هذا، بل التحقيق) الجامع لكلامهم: (إن التوكل بترك الادخار لا يتم إلا بقصر الأمل) ، وإليه الإشارة بقول صاحب القوت: وترك الادخار إنما هو حال من مقامه قصر الأمل .

(وأما عدم آمال البقاء فيبعد اشتراطه، ولو في نفس، فإن ذلك كالممتنع وجوده) إلا ما رواه صاحب الحلية بسنده إلى ابن أبي داود قال: سمعت عبد الرازق يقول: اجتمع سفيان الثوري، ووهيب بن الورد فقال سفيان لوهيب: يا أبا أمية، أتحب أن تموت؟ فقال: أحب أن أعيش لعلي أتوب، فقال وهيب: فأنت؟ قال: ورب هذه البنية -ثلاثا- وددت أني مت هذه الساعة (أما الناس فيتفاوتون في طول الأمل وقصره) في القلة والكثرة، (وأقل درجات الأمل يوم وليلة فما دونه من الساعات) فمنهم من إذا أصبح (لم ينتظر المساء) ، وإذا أمسى لم ينتظر الصباح، (وأقصاه ما يتصور أن يكون عمر الإنسان، وبينهما درجات لا حصر لها، فمن لم يؤمل أكثر من شهر أقرب إلى المقصود ممن [ ص: 502 ] يؤمل سنة) ، وكذا من لم يؤمل أكثر من أسبوع أقرب ممن يؤمل شهرا (وتقييده بأربعين) ، أي: من أربعين يوما وقيده بهذا العدد (لأجل ميعاد موسى عليه السلام) في قوله تعالى: وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة (بعيد) ، والاستدلال به على مسألة الادخار غير صحيح، (فإن تلك الواقعة ما قصد بها بيان مقدار ما رخص الأقل فيه، ولكن استحقاق موسى لنيل الموعود كان لا يتم إلا بأربعين يوما) التي هي ثلث الثلث من السنة (لسر) إلهي (جرت به وبأمثاله سنة الله تعالى في تدريج الأمور) ، وتمهيلها (كما قال -صلى الله عليه وسلم- إن الله خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا) .

قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن مسعود وسلمان بإسناد ضعيف جدا، وهو باطل اهـ .

قلت: ورواه من رواية أبي عثمان النهدي عنهما، ولفظه: إن الله -عز وجل- خمر طينة آدم أربعين يوما وليلة، ثم أخذها بيده، ثم قال: هكذا قطعها بيده، فخرج في يمينه كل نفس طيبة، وخرج في يده الأخرى كل نفس خبيثة، ثم شبك بين أصابعه حتى خلطها، فلذلك يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.

ورواه ابن مردويه من حديث سلمان بلفظ: "إن الله تعالى خمر طينة آدم أربعين صباحا بلياليها، ثم ضرب بيده اليمنى، وكلتا يديه يمين، فقطع قطعة، ثم خلطها، فمنها يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن"، وليس في سياق حديثهما قوله: بيده .

وقد روى الديلمي من حديث الحارث بن نوفل: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده؛ خلق آدم، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده"، وعند مسلم من حديث أبي هريرة: " خلق الله آدم يوم الجمعة بيده" الحديث، وفي الذهب الإبريز لسيدي أحمد بن مبارك، وسمعته يعني شيخه السيد عبد العزيز الدباغ -قدس سره- يقول: إن الله تعالى لما أراد خلق آدم -عليه السلام- جمع تربته في عشرة أيام، وتركها في الماء عشرين يوما، وصوره في أربعين يوما، وتركه عشرين يوما بعد التصوير حتى انتقل من الطينية إلى الجسمية، فمجموع ذلك ثلاثة أشهر هي رجب وشعبان ورمضان، ثم رفعه الله تعالى إلى الجنة، ونفخ فيه من روحه اهـ .

(لأن استحقاق تلك الطينة التخمر كان موقوفا على مدة مبلغها ما ذكر) قال سيدي عبد العزيز المذكور: خلق الله بعض الأشياء، ورتب خلقها في أيام، وأجراه شيئا فشيئا؛ لأنه يحصل من ذلك توحيد عظيم للملأ الأعلى؛ لأن في تنقل ذلك الحادث من طور إلى طور، ومن حالة إلى حالة، وظهور أمره شيئا فشيئا ما لا يكيف من جمع همم الملأ الأعلى إلى الالتفات إليه، فالتعجب في أمر الله من ذلك الحادث، والتفكر في شأنه، وكيف يخلقه، وماذا يكون منه، وإلى أي شيء يصير، فهم يرتقبون الحالة التي يخرجون عليها، فإذا حصل لهم من التوحيد ما لا يكيف ولا يحصى، وفي زمن الارتقاب يحصل لكم من العلم بالله والاطلاع على باهر قدرته وسريانها في المقدورات شيء عظيم، فلا يفوتهم شيء من أسرارها في ذلك المخلوق، فيحصل لهم فيه التفهيم التام، فالتدريج لهذه الحكمة ولحكمة أخرى، وهي أنه بهذا التدريج وانتظار خروج الحادث، والتشوق إليه توحد مخلوقات أخر مثل هذا الحادث أو أعظم فلله تعالى في كل أسرار وحكم .




الخدمات العلمية