الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه لمعة عجيبة من عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات ، وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الإحاطة بكنهه عجزوا عن حقيقته ولم يطلعوا على أمور جلية من ظاهر صورته ، فأما خفايا معاني ذلك فلا يطلع عليها إلا الله تعالى .

ثم في كل حيوان ونبات أعجوبة وأعاجيب تخصه لا يشاركه فيها غيره فانظر إلى النحل وعجائبها وكيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل وجعل أحدهما ضياء وجعل الآخر شفاء ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها عن النجاسات والأقذار وطاعتها لواحد من جملتها هو أكبرها شخصا ، وهو أميرها ثم ما سخر الله تعالى له أميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى إنه ليقتل على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة لقضيت منها عجبا آخر العجب إن كنت بصيرا في نفسك وفارغا من هم بطنك وفرجك وشهوات نفسك في معاداة أقرانك وموالاة إخوانك ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنائها بيوتها من الشمع واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس فلا تبني بيتا مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا ، بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن دركها وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستديرة : وما يقرب منها ؛ فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة ، وشكل النحل مستدير مستطيل ، فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة ، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة ؛ فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لم تجتمع متراصة ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير ، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس ، وهذه خاصية هذا الشكل فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ولطافة قده لطفا به وعناية بوجوده وما هو محتاج إليه ليتهنأ بعيشه ؛ فسبحانه ما أعظم شأنه ! وأوسع لطفه وامتنانه .

! فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات ، ودع عنك عجائب ملكوت الأرض والسموات ؛ فإن القدر الذي بلغه فهمنا القاصر منه تنقضي الأعمار دون إيضاحه ولا نسبة لما أحاط به علمنا إلى ما أحاط به العلماء والأنبياء ، ولا نسبة لما أحاط به علم الخلائق كلهم إلى ما استأثر الله تعالى بعلمه ، بل كل ما عرفه الخلق لا يستحق أن يسمى علما في جنب علم الله تعالى فبالنظر في هذا وأمثاله تزداد المعرفة الحاصلة بأسهل الطريقين ، وبزيادة المعرفة تزداد المحبة ؛ فإن كنت طالبا سعادة لقاء الله تعالى فانبذ الدنيا وراء ظهرك واستغرق العمر في الذكر الدائم والفكر اللازم فعساك تحظى منها بقدر يسير ، ولكن تنال بذلك اليسير ملكا عظيما لا آخر له .

التالي السابق


(فهذه لمعة في عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات، وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الإحاطة بكنهه عجزوا عن حقيقته ولم يطلعوا على أمور جلية من ظاهر صورته، فأما خفايا معاني ذلك فلا يطلع عليه إلا الله تعالى، ثم في كل حيوان ونبات أعجوبة) ، بل (وأعاجيب تخصه) دون غيره (لا يشاركه فيه غيره) ، فإن شئت بيان ذلك (فانظر إلى النحل) ذباب العسل، واحده نحلة للذكر والأنثى (وعجائبها) ، قال الزجاج: سميت نحلا؛ لأن الله تعالى نحل الناس منها العسل الذي تخرجه، (وكيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) [ ص: 592 ] وذلك قوله تعالى: وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون قال في عجائب المخلوقات: يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة؛ إذ أوحى الله فيه إلى النحل صنعة العسل، بين سبحانه وتعالى أن في النحل أعظم اعتبار فتأمل كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها كيف اتخذت بيوتا في هذه الأمكنة الثلاثة من الجبال والشجر وحيث يعرش الناس؛ أي يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيتا في غير هذه الثلاثة البتة، وتأمل كيف كان أكثر بيوتها في الجبال، وهو المقدم في الآية ثم الأشجار وهي دون ذلك، ثم العروش وهي أقل بيوتها، وانظر كيف أداها حسن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت قبل المرعى فهي تتخذها أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها؛ لأنه تعالى أمرها أولا باتخاذ البيوت ثم بالأكل بعد ذلك، (و) انظر (كيف استخرج من لعابها الشمع والعسل وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء) ، لف ونشر مرتب، وفي قوله: من لعابها، إشارة إلى أن العسل يخرج من أفواهها، وهو قول الجمهور. ونقل ابن عطية في تفسيره عن علي -رضي الله عنه- أنه قال في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. وظاهر هذا أنه من غير الفم، قلت: والمعروف من كلامه، فأشرف المطعوم العسل، وهو مذقة ذباب، وقد تقدم ذكره في كتاب ذم الدنيا، والتحقيق أن العسل يخرج من بطونها ولا يدرى من فيها أو غيره، وقد صنع أرسطاطاليس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع فأبت أن تعمر حتى لطخته من باطن الزجاج بالطين. ذكره القزويني، وفي تفسير الكواشي الأوسط أن العسل ينزل من السماء فينبت في أماكن فتأتي النحل فتشربه، ثم تأتي الخلية فتلقيه في المهيأ للعسل في الخلية لا كما يتوهمه بعض الناس أن العسل من فضلات الغذاء، وأنه قد استحال في المعدة عسلا، هذه عبارته، (ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار) ، فيستحيل في جوفها عسلا وتلقيه من أفواهها فيجتمع منه القناطير المقنطرة، وهذا الذي دل عليه القرآن، واختلاف لونه وطعمه بحسب اختلاف المرعى، وهذا المعنى قول عائشة: درست نحلة العرفط حتى شبهت رائحته برائحة المعافير، (واحترازها عن النجاسات والأقذار) ؛ فلا تقع إلا على الطيبات من الثمار والأزهار، وتخرج رجيعها في الخلية؛ لأنه منتن الريح، (وطاعتها لواحد من جملتها) يسمى اليعسوب (هو أكبرها شخصا، وهو أميرها) ، ومن خصائصه أنه ليس له حمة يلسع بها، وأفضل ملوكها الشقر وأوسطها الرقط بسواد، ولا يتم أمرها إلا به، وقد جاء ذكره في حديث أبي أمامة: إن أحدكم إذا أراد أن يخرج من المسجد تداعت جنود إبليس واجتمعت كما تجتمع النحل إلى يعسوبها. رواه ابن السني في اليوم والليلة، وروى ابن عدي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: أنت يعسوب المؤمنين، (ثم ما سخر الله تعالى له أميرها من العدل والإنصاف بينها، حتى إنه ليقتل على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة) ؛ أي إنها إذا رأت فسادا من ملك إما أن تعزله وإما أن تقتله، وأكثر ما يقتل خارج الخلية (لقضيت منها عجبا) ، وفي نسخة: العجب (إن كنت بصيرا في نفسك وفارغا من هم بطنك وفرجك وشهوات نفسك في معاداة أقرانك وموالاة إخوانك) . قال القزويني: هو حيوان ذوقهم وكيس وشجاعة ونظر في العواقب ومعرفة بأصول السنة وأوقات المطر وتدبير المربع والطاعة لأميره والاستكانة لكبيره وقائده، بديع الصنعة .

وقال غيره: ومن شأنه في تدبير معاشه أنه إذا أصاب موضعا نقيا بنى فيه بيوتا من الشمع أولا، ثم البيوت التي يأوي فيها الملوك ثم بيوت الذكور التي لا تعمل شيئا، والذكر أصغر جرما من الأنثى وهي تكثر المادة داخل الخلية، وإذا طارت خرجت بأجمعها وترتفع في الهواء ثم تعود إلى الخلية، والنحل يعمل الشمع أولا ثم يلقي البذر لأنه بمنزلة العش للطير، فإذا ألقته قعدت عليه وتحضنه كما يحضن الطير فيكون البذر دون البيض، ثم تبيض الدود وتغذي نفسها ثم تطير، وهو لا يقعد على أزهار مختلفة، بل على زهر واحد، وتملأ بعض البيوت عسلا وبعضها فراخا، والملوك لا تخرج إلا مع جميل النحل، فإذا عجز عن الطير حملته، والنحل يجتمع فيقسم الأعمال، فبعضها يعمل العسل وبعضها يعمل الشمع وبعضها يسقي الماء وبعضها يبني البيوت، ومن طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية، وإذا هلك منها شيء داخل الخلية أخرجته الأحياء إلى الخارج، وهو يعمل زمان الربيع والخريف، والذي يعمله في الربيع أجود، والصغير أعمل من الكبير [ ص: 593 ] ويشرب من الماء ما كان عذبا صافيا يطلبه حيث كان ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعه، وإذا قل العسل في الخلية قذفه بالماء ليكثر خوفا على نفسه من نفاده؛ لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور، وربما قتلت منها ما كان هناك. قال حكيم اليونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا، قالوا: كيف؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأقصته عن الخلية؛ لأنه يضيق المكان ويفني العسل ويعلم النشيط الكسل، والنحل يسلح جلده كالحيات، وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ويضره السوس، ودواؤه أن يطرح في كل خلية كف ملح وأن تفتح في كل شهر مرة وتدخن بأخثاء البقر، ومن طبعه أنه إذا طار من الخلية ليرعى وعاد تعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه، وأهل مصر يحولون الخلايا في السفر ويسافرون بها إلى موضوع الزهر والشجر، فإذا اجتمع إلى المرعى فتحت أبواب الخلايا، فيخرج منها ويرعى يومه أجمع، فإذا أمسى عاد إلى السفينة وأخذت كل واحدة مكانها لا تتغير عنه. وروى البيهقي في الشعب عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة، فما سمعته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا هذا الحديث: إن مثل المؤمن مثل النحلة، إن صاحبته نفعك وإن شاورته نفعك وإن جالسته نفعك، وكل شأنه منافع، وكذلك النحلة كل شأنها منافع.

قال ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة حذق النحل وفطنته وقلة أذاه وحقادته ومنفعته وقنوعه وسعيه في الليل وتنزهه عن الأقذار وطيب أكله، وأنه لا يأكل من كسب غيره، ونحوله وطاعته لأميره، وإن للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله: ظلمة الغفلة وغيم الشك وريح الفتنة ودخان الحرام وداء السعة ونار الهوى، (ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنائها بيوتها من الشمع واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس) الذي لا ينخرق، (فلا تبني بيتا مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا، بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن دركها) وإحاطتها، (وهو أن أوسع الأشكال وأحواها) ؛ أي أجمعها، (المستديرة) أي: المستديرة الشكل (وما يقرب منها؛ فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فروج ضائعة؛ فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لم تجتمع متراصة ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاستواء من المسدس، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس، وهذه خاصية هذا الشكل) ؛ فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وبيانه أن الأشكال من الثلاثة إلى العشرة إذا جمع كل واحد منها إلى أمثله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس؛ فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل به كأنه قطعة واحدة، كل هذا بغير مقياس ولا آلة ولا بيكار، وذلك من أثر صنع اللطيف الخبير وإلهامه إياها؛ (فانظر كيف ألهم الله النحل على صغر جرمه لطفا به وعناية لوجوده وما هو محتاج إليه ليتهنا بعيشه؛ فسبحانه ما أعظم شانه! وأوسع لطفه وامتنانه! فاعتبر) أيها السالك (بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات، ودع عنك عجائب ملكوت الأرض والسموات؛ فإن القدر الذي بلغه فهمنا القاصر منه تنقضي الأعمار) الطوال (دون إيضاحه ولا نسبة لما أحاطه به علمنا إلى ما أحاط به العلماء والأنبياء، ولا نسبة لما أحاط به علم الخلائق كلهم إلى ما استأثر الله تعالى بعلمه، بل كل ما عرفه الخلق لا يستحق أن يسمى علما في جنب علم الله تعالى) لاتصافه بالنقص والقصور من كل وجه؛ (فبالنظر في هذا وأمثاله تزداد المعرفة الحاصلة بأسهل الطريقين، وبزيادة المعرفة تزداد المحبة؛ فإن كنت طالبا سعادة لقاء الله فانبذ الدنيا وراء ظهرك) ، كما قال القائل:


متى ما تلق من تهوى دع الدنيا وأهليها

(واستغرق العمر في الذكر الدائم والفكر الملازم) الناشئين عن مراقبة الحق تعالى؛ (فعساك تحظى منها بقدر [ ص: 594 ] يسير، ولكن تنال بذلك اليسير ملكا عظيما لا آخر له) ، وسعادة أبدية لا انصرام لها أبد الآباد، والله الموفق.




الخدمات العلمية